الخيارات أمام المستضعفين وكذلك المستضعف والعاجز لا يجب عليهما الجهاد، ولم يفرضه الله على المسلمين وهم مستضعفون بمكة قبل الهجرة، وإنما فرضه بعد ما تهيأت لهم أسباب الجهاد بوجود دار الهجرة والنصرة في المدينة، وهذا الحكم غير منسوخ وإنما هو من الخيارات أمام المستضعفين، ودليل بقاء هذا الحكم (وهو سقوط وجوب الجهاد عن المستضعف والعاجز) أنه وبعد تشريع الجهاد بعد الهجرة لم يأمر به النبي صلى الله عليه وسلم من بقي بمكة من المستضعفين عاجزا عن الهجرة ولم يوجبه الله عليهم بل عذرهم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو الله لهم في قنوته. وهذا الحكم باق إلى آخر الزمان؛ لأن الله سبحانه سوف ينهى المسيح عليه السلام بعد نزوله من السماء عن قتال يأجوج ومأجوج بسبب العجز عن القدرة، بالرغم من أن المسيح سيكون معه في ذلك الوقت خيرة المؤمنين في الدنيا وقد انتصروا على الدجال من قبل، ورد هذا في صحيح مسلم عن النواس بن سمعان رضي الله عنه مرفوعًا، وفيه قال النبي صلى الله عليه وسلم «فبينما هو كذلك إذ أوحى الله تعالى إلى عيسى عليه السلام أني قد أخرجت عبادًا لي لا يدان لأحد بقتالهم، فحرز عبادي إلى الطور، ويبعث الله يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون، فيمر أوائلهم على بحيرة طبرية فيشربون ما فيها، ويمر آخرهم فيقولون: لقد كان بهذه مرة ماء، ويحصر نبي الله عيسى عليه السلام وأصحابه حتى يكون رأس الثور لأحدهم خيرًا من مئة دينار لأحدكم اليوم، فيرغب نبي الله عيسى عليه السلام وأصحابه إلى الله تعالى، فيرسل الله تعالى عليهم النغف في رقابهم، فيصبحون فرسى كموت نفس واحدة» الحديث، و»لا يدان» لا طاقة، و»النغف» دود، و»فرسى» قتلى. وبالنظر إلى الواقع فإن أحوال الجماعات الإسلامية الساعية إلى تطبيق الشريعة والنهي عن المنكر في معظم بلدان المسلمين أحوالها تتراوح بين العجز والاستضعاف، والسوابق والتجارب المريرة التي خاضتها هذه الجماعات خير شاهد على ذلك، ومن الغرور أن يرى الإنسان في نفسه ما ليس فيها فيكون «كلابس ثوبي زور» ومن الغرور أن يلتزم المسلم بدينه اليوم ويصير في بضع سنين مفتيًا لإخوانه وخبيرًا عسكريًا يقودهم من مهلكة إلى مهلكة. وبناء على ما سبق في هذا البند نرى عدم جواز تغيير المنكرات باليد إلا لذي سلطان في سلطانه كالأب في أهل بيته أو لإنقاذ مسلم من مهلكة لا تتدارك، كما نرى عدم جواز الصدام مع السلطات الحاكمة في بلدان المسلمين من أجل تطبيق الشريعة باسم الجهاد، فالتغيير باليد والصدام كلاهما ليسا من الخيارات الشرعية الميسورة فلا تجب، وإنما تجب الدعوة بالحسنى، فإن عجز عنها المسلم ففي الصبر خيار وأجر، وفي حديث النهي عن قتال يأجوج ومأجوج دليل على أن سقوط واجب الجهاد عند العجز حكم باق إلى آخر الزمان حتى لا يتأثم مسلم من ترك الجهاد عند العجز، أو يقول إن هذا حكم منسوخ كان خاصًا بالعهد المكي، بل هو خيار باق إلى آخر الزمان كما ثبت الدليل بذلك، وليس أحد الآن خيرًا من عيسى بن مريم عليه السلام ومن معه وقد اختار الله لهم كف اليد عن الجهاد عند العجز وعدم الجدوى. ولا يجوز النظر في دليل واحد وترك ما يقيده في موضوعه بل يجب الجمع بين الأدلة ووضع كل منها في موضعه الصحيح، وبهذا تأتلف نصوص الشريعة، وقد ذكر ابن تيمية رحمه الله في كتابه «منهاج السنة النبوية» قاعدة جامعة قال فيها «لا بد أن يكون مع الإنسان أصول كلية يرد إليها الجزئيات ليتكلم بعلم وعدل، ثم يعرف الجزئيات كيف وقعت، وإلا فيبقى في كذب وجهل في الجزئيات، وجهل وظلم في الكليات فيتولد فساد عظيم»أ.ه...