ممن نتعلم «فقه الحياة»، وكيف السبيل للوصول إلى هذا الفقه المنشود، الذي من خلاله يستطيع المسلم أن يعمل لدنياه كأنه يعيش أبدًا، وأن يعمل لآخرته كأنه يموت غدًا. هل نتعلم «فقه الحياة» ممن يتمسك بأدلة الشرع فحسب؟ أم نتعلمه ممن يتمسك بأدلة الشرع مع النظر كذلك إلى الواقع؟. هذه الأسئلة وما يتفرع عنها من قضايا، وما يتعلق بها من مسائل وإشكالات، هي موضوع «المائدة الفقهية» الدسمة التي يقدمها العلامة الدكتور يوسف القرضاوي رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين يوميا على قناة «أنا» الفضائية (التردد 12226 أفقي نايل سات) طوال شهر رمضان، وذلك من خلال برنامج «فقه الحياة»، والتي ستعمل «المساء »على نشرها بشراكة مع قناة «أنا» اعتبر العلامة الدكتور يوسف القرضاوي رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين مقاومة الفساد والطغاة والظلمة من أفضل أنواع الجهاد، محذرًا من أن الفساد الداخلي يجلب الاستعمار الخارجي، كما لفت إلى لوجود صلة بين الاستبداد وشيوع المنكرات، موضحًا أن الاستبداد يشيع التحلل ليشغل المجتمع عن مقاومته. وشدد القرضاوي على أن جهاد النفس يعد من أصعب أنواع الجهاد، لأنه موجه إلى عدو محبوب، وهو النفس، موضحًا أن هذا الجهاد ينقسم إلى أربع مراتب: جهاد على تعلم الحق، وجهاد على العمل به، وجهاد على تعليمه للناس، ثم جهاد الصبر على القيام بالمراتب الثلاثة السابقة، خاصة مرتبة الدعوة. وأشار إلى أن هناك كذلك جهاد الشيطان، والذي ينقسم إلى مرتبتين: جهاد الشبهات وجهاد الشهوات، موضحًا أن الشهوات تقاوم بالصبر أما الشبهات فإن السلاح المضاد لها هو اليقين. جاء ذلك خلال حلقة الأمس من برنامج «فقه الحياة» الذي يستضيف العلامة القرضاوي طوال شهر رمضان على قناة «أنا» الفضائية ويقدمه أكرم كساب. وانتهى القرضاوي خلال الحلقة إلى أن الجهاد ليس فقط أن نحارب الكفار، إنما أن نحارب كذلك الظلمة والطغاة والمضللين، الذين يفسدون أفكار الشعوب وأخلاقها. - الفقهاء عادة يقسمون أمور الشرع إلى عبادات ومعاملات، بالنسبة للجهاد في أي القسمين يوضع، هل هو من العبادات أم هو من المعاملات؟ > بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا، وإمامنا، وأسوتنا، وحبيبنا، ومعلمنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه.. وبعد. فالجهاد يحسب في فقه المعاملات، أما إذا كان الفقه يقسم حسب تقسيم القوانين الحديثة، فيصبح عندنا: الفقه العبادي، والفقه المدني، وفقه ما يسمى بالأحوال الشخصية، وفقه جنائي، وفقه مالي، وفقه دستوري، وفقه العلاقات الدولية، وفي هذه الحالة فإن الجهاد يقع في قسم العلاقات الدولية، أي العلاقة بين المسلمين وغير المسلمين. لكن الجهاد أيضا نحسبه في العبادة باعتبار الهدف والنية، فالجهاد في الإسلام هو لإعلاء كلمة الله، ومن هذه الناحية يدخل في جانب العبادات، كما أنه عبادة باعتبار أن المسلمين ليس لهم هدف من وراء الجهاد، كفتح الأسواق أو كسب المستعمرات، ولكن هذا لا يجعله في العبادات الشعائرية الأربع المعروفة في الإسلام. - لكن البعض قد يقول إن وضع الجهاد في جانب المعاملات ربما يقلل من مكانته ومنزلته في نفوس الناس؟ > ليس من الضروي، لأن طبيعة الإسلام هي أنه دين الحياة، فإذا كان هناك قانون للأسرة، وهذا القانون ليس من العبادات، فهل معنى هذا أن قوله تعالى (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) أو (الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ) ليس له حرمة، وليس له قدسية؟ لا، فكل ما أمر الله به ونهى عنه يعتبر جزءًا من الدين بالمعنى العام. وهناك تقسيم اصطلاحي لأمور الشرع بين عبادات ومعاملات، وهناك فروق بينهما، فالأصل في العبادات المنع أو التوقيف، بينما الأصل في المعاملات هو الإذن والإباحة، كما أن الأصل في الأمور التعبدية أن يتقيد فيها بالنص ولا ينظر فيها إلى العلل والحكم والأسرار، لكن أمور المعاملات ينظر فيها إلى الحكم والأسرار، وكل هذا يشمله الإسلام. فرض أم نافلة؟ - ما حكم الجهاد، فالبعض يقول إن الجهاد تعتريه الأحكام الخمسة، من وجوب وندب، وإباحة وتحريم وغير ذلك؟ > الشائع أن الجهاد قسمان: فرض كفاية، وفرض عين، وكما قلنا في الحلقة السابقة جهاد الطلب الأصل فيه أنه فرض كفاية، وجهاد الدفع والمقاومة الأصل فيه أنه فرض عين، ولكن، هناك تفصيل، وبعض الصحابة والتابعين خالفوا هذا المفهوم، الذي يعد شبه متفق عليه عند المتأخرين، لكن لم يكن متفقًا عليه هكذا عند المتقدمين. - مثل من مِنَ الصحابة؟ > مثل عبد الله بن عمر، حيث جاء رجل يسأل عبد الله بن عمرو عن الإسلام، وأركان الإسلام فذكر له الأركان الخمسة، ثم ذكر الجهاد، وكان عبد الله بن عمر حاضرًا يسمع، وكأنه غضب من هذا الكلام، ثم قال إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «بني الإسلام على خمس» وذكر الأركان الخمسة المعروفة ولم يذكر فيها الجهاد، وكأن ابن عمر يرى أن الجهاد في هذه الحالة، ما دام الإسلام انتصر واستقر، يصبح نافلة وليس فريضة. ووافقه على هذا عدد من التابعين، منهم عمرو بن دينار، وابن شبرمة، والثوري، وعدد من العلماء ذكرهم الإمام أبو بكر الرازي في كتابه «أحكام القرآن»، وأشار إلى أنهم يقولون إن الجهاد ليس بفرض دائمًا، وذلك أيضا ما قاله بعض المالكية إذا أمنت بلاد المسلمين، ولم يكن هناك خوف من عدو، وكان المسلمون أقوياء قادرين على الدفاع عن أنفسهم في أي فرصة تلوح، أو طارئ يطرأ، فالجهاد في هذه الحالة ليس فرضًا. وهذا أمر مهم جدًّا، حتى حديث «من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق» قال عبد الله بن المبارك راوي هذا الحديث في صحيح مسلم، إن هذا كان على عهد الصحابة، أو على عهد من قبلنا، ولا يعتبر الغزو مطلوبًا من كل مسلم الآن، حيث رأى أن هذا على سبيل التطوع وليس على سبيل الفريضة. ولي رأي في هذا الحديث هو أنه لم يقل بوجوب الغزو، ولكن يقول من مات ولم يغزو ولم يحدث به نفسه، يعني فكرة الجهاد لم تخطر في باله، بينما الأمة يعتدي عليها، وتحتل أرضها، وينتهك عرضها، وتداس مقدساتها، وهو يعيش لنفسه فقط، هذا لا يرض الإسلام، فلابد أن يكون المسلم مهتمًا بأمر المسلمين «ومن لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم»، «ومن لم يصبح ناصحًا لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم فليس منهم». هذا ما يريده الإسلام من ناحية الجهاد، فالإعداد النفسي مهم جدًّا للأمة، وعلى الأمة أن تشعر أنها ذات رسالة وأن رسالتها رسالة عالمية، وأن من شأن ذلك أن يجر عليها عدواة الآخرين، حسب سنة الله (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُواًّ مِّنَ المُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً) و(وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُواًّ شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ) وطبيعة التدافع والتصارع بين الحق والباطل، وبين الهدى والضلال، وبين الخير والشر، وبين الصلاح والفساد، لا بد أن تضطر المسلمين لأن يكونوا لأنفسهم قوة حتى يدافعوا عن أنفسهم وإلا أصبحوا فريسة لغيرهم. فرض عين - متى يتعين الجهاد، وما هي الأشياء التي تجعل الجهاد فرض عين؟ > يكون «فرض عين» حينما يعتدى على المسلمين، وحينما يُقاتل المسلمين، وحينما يضطهدون من أجل عقيدتهم، كما كان يفعل مشركو قريش، من تعذيب المستضعفين الذين دخلوا في الإسلام، مثل إيذاء بلال وعمار، حتى أن أبا عمار وأم عمار ماتا تحت التعذيب، ومر عليهما صلى الله عليه وسلم وهما يعذبان، فلم يستطع أن يفعل لهما شيئًا، فقال لهما: «صبرًا آل ياسر فإن موعدكم الجنة». - عند التحام الجيشين هل يتعين الجهاد ويصبح فرض عين؟ > طبعًا، عندما يدخل العدو أرض المسلمين، أو ينتهك حرمات المسلمين، أو يعتدي على المسلمين بأي شيء من العدوان، أو حتى على أهل ذمتهم، فلو كان المسلمون عندهم أهل ذمة من اليهود أو النصارى، واعتدي عليهم يجب على المسلمين أن يدفعوا عن أهل الذمة كما يدفعون عن أنفسهم تمامًا. - حتى ولو لم يعتد على المسلمين؟ > نعم ولو لم يعتد على المسلمين، فمن واجب المسلمين الدفاع عمن يعيش في ظل دولتهم، مسلمًا كان أو غير مسلم، ومن واجبهم أن يكفلوا هؤلاء، ولذلك لا يجوز أن يترك جائع في ديار الإسلام، مسلمًا أو غير مسلم، فهذه الحالة الأولى التي يكون فيها الجهاد فرض عين. أما الحالة الثانية فهى عندما يستنفر الإمام المسلمين للجهاد، فهنا يجب عليهم أن يستجيبوا لهذه الدعوة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية، فإذا استنفرتم فانفروا» . وفي هذا يقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ) ثم جاء هذا الوعيد (إِلاَّ تَنفِرُوا) استجابة للدعوة التي دعتكم للجهاد (يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) وبعد ذلك قال (انفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) فحينما تدعون وتستنفرون؛ لأن الأصل ألا تستنفروا إلا لطارئ هائل يستوجب أن نعبئ الأمة، فلا بد في هذه الحالة أن يكون هناك سمع وطاعة، وأن تكون هناك استجابة لا تلكؤ فيها، وهذا شأن الأمة المجاهدة.