أجمعت الإنسانية عبر تجاربها الطويلة على أن الهوية من القضايا الجوهرية التي لا تقبل أنصاف الحلول، ولا تقبل عمليات الترقيع أو التبديل أو المساومة .وإذا كانت الوسطية مطلوبة ومرغوبة في الفكر، والسلوك ، والمواقف، فان الوسطية في مجال الهوية بماهي ذات متميزة عن الغير لا تعني سوى الانحلال والتفكك والذوبان . و لعمقها وخطورتها على الشعوب، في وحدتها، وتماسك نسيجها الاجتماعي، و نظرتها لذاتها ولغيرها، ومستقبلها بين أمم العالم، فان الهوية تكون ñعادة- محل إجماع بين جميع مكونات المجتمع الواحد، التي تتوافق على أن تجعلها إطارا عاما مميزا، بعيدا عن التجاذبات السياسة، والتقاطبات الإيديولوجية ، والمماحكات الاثنية أو الطائفية. ❶ الصراع على هوية المغرب ليس وليد اليوم بمناسبة تعديل الدستور، ولكن جذوره تمتد إلى بداية الاستقلال عن الاستعمار الفرنسي. أي أن عمر معركة الهوية هو عمر المغرب المستقل. هناك فريقان أو قل تياران : التيار الأول ñوهو التيار الغالب- تمثله جماهير الشعب المغربي، بقيادة علمائه، ودعاته، ومجاهديه، وحركاته الإسلامية، وزعماء حركته الوطنية، و كثير من النخب مختلفة المشارب الذين رغم تعلمهم في الغرب أو انبهارهم قليلا أو كثيرا بحضارته- ظلوا متشبثين بل مدافعين عن الانتماء الحضاري للمغرب ، وبأن المرجعية الإسلامية هي مرجعية عليا للامة المغربية . أما التيار الثاني فتمثله بعض النخب الفرنكفونية المستلبة ، واليسارية الفاشلة، والليبرالية المتغربة، ودعاة التطبيع مع الكيان الصهيوني، و يمكن تصنيفهم جميعا تحت يافطة " التيار العلماني المتطرف " (تمييزا له عن التيار العلماني الوطني المعتدل)، هؤلاء يدفعون في اتجاه قطع علاقات المغرب مع عمقه التاريخي والحضاري العالم الإسلامي تحديدا- وربطه ربطا تاما مع الغرب ( وهو ما سبق أن دعا إليه عبد الله العروي في كتابه "العرب والفكر التاريخي")، وأن العلمانية أو بالتعبير المخفف" الدولة المدنية " ( وهو الاسم الحركي للعلمانية) هي التي يجب أن تكون مرجعية الدولة والشعب، رغم أن الدولة الإسلامية هي بالضرورة دولة مدنية وليست بأي حال دولة اوتوقراطية دينية بالمعنى الغربي لهذا المصطلح. ما تجاهله التيار الثاني هو أن الهوية تعبير عن الوعي الجمعي للمجتمع أي أن هوية المجتمع هي الأساس وهي المنطلق. وبالتالي فمن المنطقي أن تنبع أسس الهوية من المجتمع، وأن تلتزم الدولة بهوية مجتمعها، ثم يأتي النظام السياسي كتتويج لهوية المجتمع والدولة. القاعدة هنا هي أن الدولة يجب أن تعبر عن الانتماء الهوياتي لمجتمعها عبر صياغة نظام سياسي يعكس هذا الانتماء . وإذا كانت مرجعية الإسلام هي المرجعية العليا للشعب المغربي منذ الفتح الإسلامي إلى اليوم. وإذا كانت الدول التي تعاقبت على حكم المغرب لم تخرج في يوم من الأيام عن هذا المعطى التاريخي والحضاري، وإذا كانت كل الدساتير المغربية قد نصت على أن المغرب دولة إسلامية، وأن الإسلام هو الدين الرسمي للدولة، فلا يفهم - لا عقلا ولاشرعا ولا واقعا- لماذا جرت محاولات على يد أطراف من لجنة تعديل الدستور برئاسة المنوني للالتفاف على هذا النص أو التشويش عليه بإضافة عبارات مبهمة تنقص من قيمته. أليس هذا نوعا من فرض الحصار على المرجعية الإسلامية في أهم وثيقة لها حساسيتها، ولها دلالتها، ولها رمزيتها، ولها قوتها؟ ثم ما الذي تغير في الواقع المغربي ويستدعي تغييرا أو التفافا على هذا النص تحديدا؟ ثم من هي الجهات التي طالبت بهذا تغيير؟ وكم هو وزنها داخل المجتمع؟ ❷ السجال الحاد الذي طفا فجأة حول مسألة الهوية في الدستور كان متوقعا بالنظر إلى أن أولى الملاحظات التي سجلها المتتبعون على اللجنة المكلفة بوضع مسودة الدستور المعدل هي غلبة تيار فكري واحد على تركيبة أعضائها، بحيث لم تمثل فيها حساسيات مجتمعية معروفة بثقلها الجماهيري والثقافي ، كما لم تمثل فيها مؤسسة عريقة في المغرب هي مؤسسة العلماء، بمعنى أنها كانت منذ البداية لجنة غير متوازنة ، ولاتعكس كل التوجهات التي تعتمل داخل جسم المجتمع. ولا يستغرب بالتالي أن يكون منتوجها ناقصا . أن ينص الدستور الجديد- كما الدساتير الخمس السابقة-على أن الإسلام دين الدولة، فهذا أقل ما يفترض أن يعترف به الدستور بخصوص إسلامية الدولة وذلك لعدة اعتبارات: -المغرب ليس بدعا في هذا المجال بحيث نصت دساتير الغالبية العظمى من الدول العربية والإسلامية على أن الإسلام دينها الرسمي. -هناك دول عربية و إسلامية نصت في دساتيرها ñ بالإضافة إلى إسلامية الدولة- على أن الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيس للتشريع ، هذا ما ينص عليه الفصل الثاني من دستور جمهورية مصر العربية على سبيل المثال بالرغم من وجود أقلية قبطية يبلغ تعدادها ستة ملايين نسمة حسب بعض الاحصائيات، وهي حالة ( أي وجود الاقباط)غير موجودة عندنا في المغرب، وهو ما يقتضي أن يكون دستورنا أكثر تقدما لجهة التنصيص الصريح على الإسلام كمصدر أسمى للتشريع. -المغرب يعتبر من الدول الإسلامية القليلة التي " مسح فيها الإسلام الطاولة مسحا"، بحيث لو استثنينا الأقلية اليهودية التي عاشت مواطنتها الكاملة في كنف الدول الإسلامية المتعاقبة على حكم المغرب، وتضاءل عددها اليوم إلى بضع آلاف بعد هجرة غالبيتهم إلى إسرائيل ليصبحوا وقودا يدمر ويحرق إخواننا الفلسطينيين، أقول باستثناء تلك الأقلية اليهودية فقد كان المغرب دوما دولة إسلامية. وهذه الحقيقة التاريخية والواقعية كان من المفروض أن تجد لها صدى أعمق مما هو عليه الآن في القانون المؤسس أي الدستور. -من اللافت للنظر أن تنص كثير من الدول الغربية صراحة في دساتيرها ليس على الدين الرسمي للدولة فحسب بل حتى على المذهب الديني للدولة، وأحيانا لرئيس الدولة، وأحيانا لأعضاء بعض المجالس التشريعية كاللوردات أو البرلمانات. فانظر وتأمل هذه النماذج: - ينص الدستور الاسباني على أن رئيس الدولة لابد أن يكون من أتباع الكنيسة الكاثوليكية . وتلتزم الدولة دستوريا بحماية المذهب الكاثوليكي الذي هو مذهبها الرسمي. - ينص القانون البريطاني على أن ملك بريطانيا لا بد أن يكون من رعايا الكنيسة البروتستانية، و أن مجلس اللوردات يتكون وجوبا من البروتستانتيين. - في الدانمارك ينص الدستور على أن الكنيسة الإنجيلية اللوثرية هي الكنيسة المعترف بها رسميا. - الدستور اليوناني ينص على أن الكنيسة المعترف بها رسميا هي الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية. - الدستور السويدي - وهو بلد معروف بالحرية الشخصية المطلقة- ينص على أن يكون أعضاء البرلمان ( أو المجلس الوطني) من أتباع المذهب الإنجيلي . ❸ الدساتير -سواء في الدول العربية والإسلامية أو في الدول الغربية أو في بقية دول المعمور- تؤكد أن ما من دولة في هذا العالم إلا ولها دين. حتى فرنسا ñ الدولة اليعقوبية المتطرفة- تتخذ من العلمانية دينا يستكثر على المرأة المسلمة أن تضع على رأسها ما تشاء من حجاب أو خمار، ورئيسها الأسبق، جيسكار ديستان، كان من أشد الرافضين لانضمام تركيا إلى الاتحاد الأوربي بدعوى أن الاتحاد يعتبر ناديا مسيحيا لا مكان فيه لغير المسيحيين. ودولة غربية تدعي الحياد - مثل سويسرا- صوت شعبها ضد بناء مآذن المساجد الإسلامية في تحد صارخ لحق المسلمين في الاختلاف، وفي ممارسة شعائرهم كما يمليها عليهم دينهم. دعاة الانتقاص من الهوية الإسلامية للمغرب، والى انتمائه العميق إلى الأمتين العربية والإسلامية يلعبون بالنار، لأن من شأن إصرارهم على ذلك التوجه أن يؤدي إلى إذكاء نزاعات مجتمعية من الصعب التنبؤ بمآلاتها الكارثية على مستقبل البلد.إضافة إلى أن ذلك سيفقدنا - دولة وشعبا- عمقا استراتيجيا على مستويين كبيرين، المستوى الأول هو الانتماء إلى تاريخ عريق من البطولات والأمجاد والعلوم والحضارة الشامخة . و المستوى الثاني يتعلق بالأمة الإسلامية بما تمثله من عمق روحي وامتداد بشري وفضاء اقتصادي يمتد من طنجة إلى جاكارتا .هلا فكرنا في ماسماه وزير خارجية تركيا بالعمق الاستراتيجي؟ المطلوب هو الرجوع إلى صوت الحكمة والعقل، ففي الهوية : نكون أو لانكون.