خيوط ناعمة» على نسق تعبير «القوة الناعمة» التي يطلقها الأستاذ «محمد حسنين هيكل» في حواراته حينما يصول ويجول في توصيفاته لأنواع القوى بين «خشنة وناعمة»، وعلاقة «هيكل» هنا هي أنه أيضاً يصول ويجول في إبداع «خيوط ناعمة يدفع بها» في ثنايا «الثورة المضادة»، ولكنها خيوط أمضى في القتل من السكين الحاد، وهي أخطر من أفاعيل فلول «الحزب الوطني»، ومن تحركات البعض لإشعال الفتنة الطائفية، ومن اندساس قوى النظام السابق بين متظاهري ميدان التحرير لإحداث الوقيعة والفوضى.. وكل تلك صور واضحة للثورة المضادة يمكن تسميتها «القوة الخشنة للثورة المضادة» - نسجاً على تعبيرات «هيكل» - وهي في كل الأحوال قوة غاشمة تعبّر عن حالة غليان لدى أركان النظام السابق وفلوله، لكن الأخطر على الثورة هو في التحركات الهادئة التي تتجلى في صور التعبير عن الرأي بشأن حاضر البلاد ومستقبلها، وتتميز تلك التحركات بالهدوء والتنسيق والانسجام بين مَنْ يقودونها في تقاسم متميز للأدوار. تنطلق تلك التحركات من قلب تيار جمع كل قواه على تباين أفكارها بين ليبرالي وعلماني ويساري، احتضن في قلبه فريقاً من الكنيسة، وهم يُجمعون على شيء واحد، ويستميتون في العمل على تحقيقه؛ وهو تأجيل الانتخابات البرلمانية القادمة المقرر إجراؤها في سبتمبر القادم، وتأجيل انتخابات الرئاسة أيضاً، وتشكيل لجنة لصياغة دستور للبلاد، مع عدم ممانعة من مواصلة المجلس العسكري في حكم البلاد.. وهذا يعني بصريح العبارة إلغاء العملية الديمقراطية في مصر، وإعادة البلاد إلى العهود المظلمة.. عهود حكم الفرد والكبت والفساد، التي ألقت بمصر في قاع الدنيا لسنوات سحيقة. في البدء، قاد تلك الحملة أقلام ليبرالية على أعمدة بعض الصحف، وفي فضاء بعض البرامج من «قنوات» رجال الأعمال المرتبطين بصورة مباشرة أو غير مباشرة بالنظام المخلوع، فلما لم يجدوا صدى لكلامهم في الساحة؛ دخل على الخط القادة الكبار ذوو الثقل الفكري والسياسي، وأعني «د. يحيى الجمل»، والأستاذ «محمد حسنين هيكل»، والسيد «عمرو موسى»؛ ليقودوا حملة الدعوة لتأجيل الانتخابات، أي تجميد خطوات الانتقال السلمي والديمقراطي للسلطة إلى هيئة مدنية (رئيساً وبرلماناً) عبر صناديق الاقتراع؛ لتبقى البلاد في مهب الريح. «د. يحيى الجمل» استثمر وجوده في الحكومة الحالية كنائب لرئيس الوزراء، وشكّل لجنة لوضع مقترح لدستور للبلاد، وقال: إن الهدف هو أن تستنير اللجنة التي ستُشكَّل بعد الانتخابات البرلمانية بآرائها في صياغة الدستور النهائي.. وفي الحقيقة، فإن تلك اللجنة جاءت تماشياً مع رغبات كثير من الليبراليين والعلمانيين واليساريين؛ لقطع الطريق على البرلمان القادم في تشكيل تلك اللجنة؛ مخافة أن تكون أغلبية البرلمان القادم إسلامية، فلما لم تفلح تلك الفكرة؛ جاء «د. يحيى الجمل» وشكّلها لهم، وخلال تلك المناقشات، جاءت عودة «هيكل» ل«الأهرام» بحوار مطول وضع فيه النقاط على الحروف في تلك المسألة، فارضاً علينا حقيقة مليئة بالهراء؛ وهي «أن تجربة يوليو 1952م ملهمة لثورة يناير 2011م»، ولا أدري أي إلهام فعلته ثورة «يوليو» لثورة «يناير».. فثورة يوليو تتميز - رغم ما يقال عن مميزاتها - بحكم الفرد وسجونه الوحشية المظلمة وكبت الرأي، وكان «هيكل» أحد أبرز مهندسي سياساتها، وفيها صنع مجده وعاش فيها ملكاً متوّجاً فوق رؤوس كل رموز الحكم ما عدا «عبدالناصر» بالطبع. على العموم، ف«هيكل» أراحنا من التفكير فيما تلهم به ثورة يوليو 1952م ثورة يناير 2011م، فعرض - خلال حواره مع «الأهرام» - استبدال البرلمان والدستور مؤقتاً بما أسماه «مجلس أمناء للدولة والدستور»، وحرّض الجيش على الاستيلاء على السلطة، وتنصيب «المشير طنطاوي» رئيساً للجمهورية!! ثم جاء السيد «عمرو موسى»، المرشح المحتمل لانتخابات رئاسة الجمهورية، ليطالب في الجلسة الثانية للحوار الوطني (الاثنين 23/5/2011م) بتأجيل الانتخابات البرلمانية إلى ما بعد الرئاسية.. طبعاً لم يطالب بتأجيل الانتخابات الرئاسية؛ لأن طول الفترة الانتقالية - في رأيه - دون رئيس سيؤدي لمشكلات كثيرة في البلاد! ومن الصعب أن نقول: إن مواقف «الجمل»، و«هيكل»، و«موسى» على اختلاف درجات صراحتهم جاءت كتوارد أفكار، أو أنها تلاقت مصادفة.. من الصعب أن نصدق ذلك، فالثلاثة من أقطاب الفكر القومي - ولا عيب في ذلك - ولكنهم من المفتونين بالتجربة «الناصرية» كاملة - بدرجات متفاوتة أيضاً - وهم يفضلون أن تحكم البلاد بحكم الفرد الدكتاتور، على أن يقترب الإسلاميون - مجرد اقتراب - لدائرة الحكم. و«د. يحيى الجمل» هو صاحب التغييرات الأخيرة في المؤسسات الصحفية، ولا أستبعد أن يكون السعي لإعادة «هيكل» ل«الأهرام» قد تم التشاور فيه بين جهات عديدة.. وأياً كان الأمر، فالرجل عاد ليقود تيار تجميد الأوضاع في البلاد على ما هي عليه، وليحاول بخبرته الفذة صناعة هيئة حكم عسكري؛ سعياً لتأسيس عهد جديد ربما يعيد إليه أمجاده في حكم مصر من وراء ستار.. وكل ذلك من أجل قطع الطريق على كلمة صندوق الانتخابات الشفاف والحر، الذي يتوقعون أن يقول ل«الإسلاميين» «نعم» بقوة، كما حدث في الاستفتاء على التعديلات الدستورية. ومن هنا، فإن وطيس الحرب سيزداد ضراوة كلما اقترب شهر سبتمبر، خاصة أن المجلس العسكري مازال مصرّاً على تنفيذ الإعلان الدستوري كما هو، وإجراء الانتخابات المقررة في موعدها، وذلك موقف تاريخي يُحسب للمجلس العسكري!! كاتب مصري- مدير تحرير مجلة المجتمع الكويتية