دور التلفزة المغربية في تقويض مؤسسات الإنتاج الحضاري 1 يبدو أن الإعلام البصري في بلادنا يسير نحو المجهول ، وأن سياسة إفراغه من محتواه تتم بدقة متناهية ، وأن العمل على تحنيطه ينجز بشكل مدروس وممنهج ،الشيء الذي نتج عنه تراجع في نسبة متابعة البرامج الوطنية نخشى أن يتوج بإعراض تام عن تلفزت نا بقناتيها الأو لى والثانية ،لتصبح لا قدر الله تلفزة بدون جمهور ، وقناة بدون مشاهدين ... لقد تعارف الناس على أن التلفزة تكون مؤسسة وطنية ، عندما تكون غير معزولة عن النسق السياسي والاجتماعي والحضاري للمجتمع ، فتجدها معانقة لهموم المواطنين ، مستجيبة لانشغالاتهم ، محترمة لمشاعرهم وأفكارهم وأذواقهم ، فتشرف آنذاك بالانتساب إلى الوطن ، وتستحق حينها صفة "الوطنية ". والمتتبع للسياسة الإعلامية للتلفزة المغربية بقناتيها ، يحار في تصنيفها ويشعر بالغربة أمامها ، ويحس بهوة سحيقة تفصله عنها ، ويلمس بوضوح الخصائص التي صارت تميزها ، والتي يمكن إجمالها فيما يلي: 1 ضمور خاصية الوطنية : فبالرغم من صفة "الوطنية " أو " المغربية " ، ورغم كون هذه التلفزة تقوم على جيوب المغاربة أبناء هذا الوطن ، وأن القيمين عليها يتكلمون لغتنا ، وسحناتهم تشبه سحناتنا ،إلا أن خاصية "الوطنية" لا تتعدى عرض فقرات إخبارية رسمية منتقاة بدقة من هنا وهناك لا تعبر حقيقة عن انشغالات المغاربة ، ولا تجيب عن تساؤلاتهم ويتفاقم الوضع أكثر عندما يتعلق الأمر بدار " عين السبع" التي يتضح يوما بعد يوم ، أن سياستها الإعلامية لا تعني المغاربة في شئ: لغة وعرضا وتحليلا 2 ضعف الانتماء القومي: حيث لا تحظى قضايانا القومية إلا بالتفاتات محتشمة ، وإشارات باهتة، وكمثال على ذلك ، قضيتنا المركزية ،قضية فلسطين ، التي لا تأخذ موقعا خاصا ، ولا وقتا كافيا ينسجم وخصوصيتها ، بل إنها لا تعدو كونها خبرا ضمن أخبار وحدثا ضمن سلسلة من الأحداث ، فهي مثلا في حجم إعصار في أمريكا ، أو وفاة فنان ، أو تعيين مدرب جديد لفريق كروي ، أو خبر طريف في أي بقعة من بقاع العالم. إننا لا نذكر حدثا في الأرض المحتلة (وما أكثر أحداثها) حظي بحيز زمني محترم ، فضلا عن الرؤية التي يعرض بها ، والخلفية التي تحكم تحليله . 3 غياب طابع الانتماء الديني والحضاري : ذلك أن البرامج الدينية لا تحظى ولم تحض في أحسن الأحوال الا ب : 3 % من ساعات البث الإجمالي. وهذه البرامج يعلم الجميع قيمتها شكلا ومضمونا وتوقيتا، بل إنك لا تكاد تجد في هذا الباب أكثر من برنامجين يتيمين في القناة الأولى . في الوقت الذي نجد فيه القناة الثانية قد أحرقت السفن مع هذا النوع من البرامج ، و كان آخرها برنامج "دين وفكر "الذي تم إعدامه واستنبات برنامج بديل عنه ، عبر بامتياز عن ولائه لوجهة إعلامية معلومة تشهد لها حلقات أشهر من نار على علم ، نذكر منها فقط حلقة :7 5 2001 . إن المشاهد المغربي يشعر بالغربة أمام تلفزته ، وهو في بيته وبين أحضان وطنه، يشعر أن هذه التلفزة ليست منه ، ولا هي إليه ،لأنها لا تتجاوب مطلقا مع انتمائه الوطني ، ولا طموحه القومي ولا تطلعه الإسلامي، مما نتج عنه تلقائيا مقاطعة هذه التلفزة بما حملت ، والارتماء في أحضان قنوات أكثر جاذبية وأكثر إمتاعا ، مما يجعل هذا المشاهد تلقائيا في حل من "عقد المواطنة "الذي كان بالإمكان أن يربطه بتلفزته . هذه إذن بعض مواصفات تلفزت نا المغربية . إنها مواصفات لا تشرفنا وقد مر أكثر من نصف قرن على الاستقلال ، وأكثر من أربعة عقود على تأسيسها . إنها لازالت دون تطلع المغاربة ، دون طموحهم ، دون آمالهم ، ولن نبالغ على ضوء هذه المواصفات إذا اعتبرنا أن مسارها الإعلامي يعمل بامتياز على تقويض دور مؤسسات الإنتاج الحضاري ببلادنا : الأسرة المسجد المدرسة . 1 الأسرة : لا يجادل أحد في كون الأسرة هي الخلية الحيوية للمجتمع ، و أن صلاح المجتمع رهين بصلاحها ،كما أن فساده رهين أيضا بفسادها ،ولا يوجد نظام اجتماعي يحدد مصير النوع الإنساني كما تحدده الأسرة . إنها المحضن الطبيعي الذي يوكل إليه حفظ الطفولة ، ورعايتها ، وتنميتها . ولذلك كان لا بد للأسرة من حصانة تحفظ دورها الاجتماعي والتربوي والتنموي.وكل خلل يصيب هذه الحصانة ، ينسحب حتما على هذا الدور. وتقوية لهذا الدور ، كان من المفروض أن تتولى مؤسسات مجتمعية دعم مؤسسة الأسرة ، حتى يتحقق المطلوب منها على الوجه الذي ينشده المجتمع . ويمكن لكل متتبع للفقرات المعروضة على شاشة تلفزت نا بقناتيها ، أن يقف على بعض المخاطر التي من شأنها أن تقوض دور الأسرة ، وتساهم في تفجير هذه الخلية النوعية . ولعل من مظاهر إذكاء هذا الدور التقويضي: اعتماد التلفزة االمغربية على فتات الموائد الأجنبية وبقايا إنتاجاتها ، التي لا صلة لها بهويتنا وحضارتنا ، و التي يسقط المتفرج أثناءها ضحية تدافع بين انتماءين أو هويتين أو ثقافتين ، تكون فيه الغلبة للأقوى منهما. فالإشهار مثلا ، والإنتاجات الدرامية ، وبرامج الأطفال المستوردة ، تشكل ذخيرة هائلة تقصف الأسرة يوميا قصفا لا هوادة فيه ، فيمس هذا القصف كل أفراد الأسرة ، وينسحب على كيانهم وأذواقهم ونفسياتهم وأخلاقهم وطريقة تفكيرهم Oفتصبح بذلك الأسرة كيانا بدون شخصية بدون أركان، بدون رسالة بدون هوية ، وبالتالي لا ينتظر منها أن تؤدي دورها الحضاري ، ورسالتها البانية على وجه أكمل ، فتحفظ طفولتنا من الضياع، وناشئتنا من الهلاك . إن فقرات الإشهار مثلا ، وهي الأقل على مستوى البث ،لا يجب أن ننظر إليها على أنها وصلات ذات بعد اقتصادي فقط ، بل لا بد من الانتباه إلى حمولتها المشحونة بالقيم والمضامين الثقافية المغايرة ،التي تساهم في تشكيل عقلية المواطن المستهلك ، و"قولبته "وفق معايير معينة وذلك باستخدام الصورة والصوت ، وتوظيف كل أشكال الإثارة. ولا يخفى على أحد حصة الطفل من هذا التشكيل وهذه " القولبة "، ليتبين لنا جليا خطورة ما يتعرض له رجل الغد وامرأة المستقبل . إننا أمام "مسخ "مفضوح ، يتم وفق جرعات مركزة ، وأمام تقويض ممنهج لمؤسسة الأسرة التي لا تعوض خسارتها بثمن ، وأمام عملية " مسح" يومي للأخلاق والقيم والأفكار ، و التي يتم تعويضها بأخرى ، لا ندري كيف سيصبح معها مجتمعنا بعد جيل أو أكثر . وإذا كان هذا هو الإشهار ، على ضآلة حضوره الزمني ، فكيف بالأفلام الغربية ، والمسلسلات المد بلجة التي استعرنا منها كل شيء ، حتى صار أبناؤنا وبناتنا يصعب تصنيفهم والتعرف على هوياتهم ... إن دور الأسرة يتضاءل يوما بعد يوم أمام هجمة التلفزيون ، في الوقت الذي نجد فيه الأسرة غارقة في جهلها وأميتها ، وضعف إمكانياتها،و بحضورها الباهت وتراجعها المخيف ، في حين نجد التلفزة معززة بإمكانياتها الهائلة ، وترسانتها الحديثة ،وآفاقها الرحبة إنها معركة غير متكافئة إذن ، والخاسر فيها ، مؤسسة الأسرة ، الشيء الذي يستوجب منا استنفارا عاما من أجل إعادة الاعتبار لهذه المؤسسة ، وإعادة التلفزة المغربية إلى وضعها الطبيعي ، وذلك بجعلها مؤسسة وطنية أصيلة ذات هوية ورسالة . 2-المدرسة : إنها ثالث مؤسسات الإنتاج الحضاري بامتياز ، حاضنة الأجيال ، ومعدة الرجال ، تحفظ للأمم هويتها، وتحرس كيانها ، وتضمن استقرارها ، وتؤمن مستقبلها . لا يمكن الحديث عن حاضر أمة ليس فيه للمدرسة حضور ، ولا عن مستقبل شعب ليس للمدرسة فيه ذكر ، حظيت ولا تزال بعناية المهتمين ، يتنادى المصلحون والمربون كل حين من أجل إصلاحها والإبقاء على ريادتها . فاستحقت بذلك وغيره أن تكون مؤسسة للإنتاج الحضاري لا تضاهى ولا تطاول ، إنها وبكلمة واحدة طريق الأمم إلى الرقي الحضاري . إلا أن المتأمل في واقع المدرسة المغربية اليوم ، يقف دون عناء على دورها الباهت ، وأدائها الضئيل، بل وعزلتها عن باقي المؤسسات المدنية الأخرى ،إننا لا نبالغ إذا قلنا بأن واقع مدرستنا ، واقع قاتم مريب . ويكفي النظر في مؤشرات من مثل : مستوى التحصيل ، الانقطاع المبكر ، ضعف نسبة مواصلة التعليم الجامعي، وتنامي ظاهرة جنوح الأطفال كاف لإعطاء صورة حقيقية عن هذا الواقع الذي يحتاج إلى تضافر جهود شرفاء هذا الوطن ، أفرادا ومؤسسات ، من أجل تجاوز هذه المحنة ، وليست مؤسسة التلفزيون إلا واحدة من هذه المؤسسات التي بإمكانها الوقوف على ثغرة من ثغرات صرح هذه الواقع المتردي معرفيا وسلوكيا . إن العلاقة بين هاتين المؤسستين لم تعرف بعد أي نوع من علاقات التطبيع أو الشراكة، التي من شأنها أن تسهل للمدرسة رسالتها، وتنمي دورها في عملية الإنتاج الحضاري .خاصة إذا استحضرنا الإمكانيات التي تميز مؤسسة التلفزيون عن غيرها من المؤسسات الأخرى . وذلك لحيازتها أداتي الصوت والصورة ، وهما من أقوى أدوات التأثير التي أصبحت ملاذا لكل القطاعات الحيوية في حياتنا المعاصرة، سواء أكانت اقتصادية أو اجتماعية أو ثقافية إن وضع تلفزتنا غريب غرابة واضعي سياستنا الإعلامية ، وليت حدود هذه الغرابة تمثلت في غيابها عن دعم رسالة المدرسة فقط ، بل إن الأمر أكبر من ذلك بكثير ، إنها والمدرسة في خصام ، في علاقة تضاد ، إن مدرستنا في واد ، و تلفزتنا في واد آخر . ولا يخفى على أحد مربيا كان أو وليا أو دارسا ، الأثر السيئ للتلفزة على ناشئتنا ، وعلى مستواهم المعرفي والتربوي . إن واقعنا التلفزي بمنتوجه المحلي والمستورد ، لا يزال بدون هوية ، بدون رسالة ، بدون هدف ، إنه حطب ليل ، بل هو مكر مدبر بليل ، وما دام الأمر كذلك ، فإن المدرسة لا يمكن أن تؤدي رسالتها على أكمل وجه ، كما أن خريجيها ( أبناؤنا ، فلذات أكبادنا ) ، لن يجدوا موقعا لهم في زحمة هذا التدافع الحضاري ، و لن يتمتعوا بالحصانة اللازمة لمكافحة العولمة الشرسة التي على الأبواب لن يقووا على ذلك أبدا ، ما دام معول التلفزة فاعليته أشد، ومضاؤه أسرع ، وبالتالي فإننا لا نملك إلا أن نردد مع الشاعر : متى يبلغ البنيان أتمه إذا كنت تبني وغيرك يهدم 3 المسجد: احتل المسجد على امتداد التاريخ الإسلامي مكانة لم تكتب لغيره من أماكن العبادات في أي ديانة أخرى . حيث كان مؤسسة يجتمع فيها المسلمون ليس للعبادة فقط ، بل أيضا لصنع القرارات السياسية والاجتماعية. فكان بحق مركزا يساهم يوميا في إعداد الفرد وبناء المجتمع و صنع الحضارة إلا أنه ومنذ عقود تعرضت هذه المؤسسة لمحاولات متلاحقة لإفراغه من مضمونه وعزله عن دوره الحضاري الذي عرف به ، فصار المسجد اليوم مؤسسة يقصدها المسلم في أوقات معينة وعلى عجل كأنما يقصد شباك مصرف ليؤدي دينا عليه ،لتنتهي العلاقة في انتظار موعد أداء دين جديد ، وهكذا..ومع مرور الزمن ، تطورت عمليات عزل المسجد تبعا للظروف السياسية والأحوال الاجتماعية . ولم يشذ بلدنا المغرب عن هذه القاعدة ، حيث أدت ظروف سياسية عابرة إلى صدور قرار جائر نتج عنه تقنين دور المسجد ، مما أدى إلى تراجع رسالته ،وتحجيم دوره ،والتقليل من حضوره في الحياة اليومية ، ليصبح بذلك مكانا للصلاة ، وفي حيز زمني مخل بمكانة مؤسسة المسجد . وأمام هذا الوضع الجديد ، فتحت الأبواب على مصراعيها وبإمكانيات لا تضاهى ، في وجه مؤسسات مغالبة لدور المسجد ، أقل ما يقال عن بعضها ، أنها مؤسسات لإنتاج أنواع الشرور ، وتصبير ألوان الفساد . ولأن المنطق يفرض أن تكون التلفزة واحدة من المؤسسات التي يمكن المراهنة عليها من أجل خلق نوع من التوازن ،بل لسد ما يمكن سده من الثغرات والجبهات التي فتحت فجأة على المجتمع ، والتي لا قبل له بها. لقد كان بإمكان التلفزة أن تكون مؤسسة مكملة لدور المسجد ،أو موازية له . بل أن تصبح منبرا يوميا يساهم في نشر الفضيلة ، ومحاربة الرذيلة ، وأخلاق السوء التي تنخر المجتمع .لكن الظن خاب في التلفزة ، وصارت مؤسسة ضرارا ، تغالب دور المسجد بسبب سياستها الإعلامية القائمة على المنتوج الهزيل ، و على الاستيراد الأعمى الذي لا يخضع لأي مقاييس أو ضوابط ، فدخلت التلفزة بذلك معركة حقيقية ، فسحبت ضد التيار ، وصارت بامتياز مصدرا للفساد والرذيلة ، في الوقت الذي كنا في حاجة ماسة لتكون التلفزة منبرا داعما للمسجد، حاضنا للأسرة ، راعيا للفرد ، مساهما في إصلاح المجتمع ، خاصة و أن مؤهلاتها التقنية كفيلة بإنجاح هذه المهمة أكثر من باقي الوسائل الأخرى ، سواء كانت مكتوبة أو مسموعة .لكن خاب الظن في التلفزة ، وأصبحت دون مزايدة أداة على غير ما يرجى منها ، أداة عوض أن تبني فهي تهدم ، عوض أن تشيد فهي تقوض. إن الأخلاق مؤشر لقيام الحضارات واستمرارها . وهي مؤشر أيضا لسقوطها واندثارها ، فلتختر التلفزة أين تتموقع ، ومع من تكون إن المنطق والعقل يقتضيان أن تكون مؤسسة للبناء لا للهدم، مؤسسة داعمة لمؤسسات الإنتاج الحضاري ، وليست مؤسسة عاملة على تقويضه . إن العقل والمنطق يقتضيان أن تكون التلفزة واقفة على ثغر من ثغور الإصلاح ، مغلقة لمنافذ الفساد ، ورحم الله الشاعر أحمد شوقي حين قال : إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا أحمد صبير الإدريسي