حتى يغيروا ما بأنفسهم الحركة الإسلامية وأسئلة المستقبل 8 ظل موضوع الفن بكل مجالاته مؤجلا لدى الحركة الإسلامية إلى أواسط التسعينات التي اتسمت بتصاعد الدعوات والاجتهادات والتوجهات الداعية إلى التجديد والتغيير في الفكر والمنهج والخطاب والوسائل. ولم تقدم الحركة إلا النزر القليل من الإبداعات الفنية التي انسابت بين صخور الفتاوى الفقهية القاسية والمتشددة التي ترى في الفن لغوا ولهوا وعبثا ومفسدة للدين والإيمان والمروءة، وتنعت كل فنان مهما كان صدق إيمانه وجدية إبداعه، بالزندقة ونشر الفتنة. ولم تسلم بعض الإبداعات الجريئة، خاصة في مجال الغناء والموسيقى، من الحصار والاتهام، حتى في صفوف شباب وطلبة الحركة الإسلامية الذين يعيشون في فضاء يتسم بإقباله الشديد على الفن والموسيقى. وحتى تلك الإبداعات الجريئة، لم تنتقل بالمضامين إلى كل قضايا الإنسان والمجتمع، بل ظلت رغم توظيفها لأشكال تعبيرية جديدة، مثل الآلات الموسيقية، حبيسة "المديح والسماع" و الإلاهيات" تعرض حتى في مناسبات اجتماعية لا يستساغ معها مثل هذه المضامين. ولقد استطاعت جهات من الحركة الإسلامية، بل فعاليات قليلة، كسر حواجز نفسية وليست شرعية، تحول دون التعاطي الجاد والمفيد مع الفن، استطاعت أن تستفز العقول وركاما من الموروثات الفقهية والثقافية، من خلال التأصيل للفن وخاصة الغناء والموسيقى، من أجل عصرنة الإنتاج الفني لدى الحركة الإسلامية. لكنها، وإن نجحت في زعزعة ذلك الركام وتجرئ المبدعين ليكونوا أكثر إلحاحا في طلب "علم" الفن وإبداع منتوج فني يستجيب لفئات عريضة من المجتمع، مع ذلك انحصر الأمر في استهلاك إنتاجات فنية مشرقية، ذات مضمون "وعظي" أو اجتهادي ليس إلا. لذلك انصرف جمهور المتدينين إلى إنتاج الآخر، بل عموم الناس انصرف إلى ما هو موجود، فوقع ما لم يكن بالحسبان، حيث تم الترويج للفساد الأخلاقي، والتشويه العقائدي، والتفكك الأسري وتم كذلك إفساد أذواق الناس وطبائعهم من خلال فن يمجد الجسد والشهوة والقوة والخرافة. فالمواطن، مهما كانت درجة تدينه وتمسكه بدينه وحتى ما يسمى بالإسلامي، له حاجة مثل سائر البشر إلى الفن، من أغنية وفيلم ومسرحية وتشكيل وغير ذلك، مما يعينه على استكمال تكوين شخصيته، والتعبير عن قضاياه وهمومه، ومواجهة أعباء الحياة ومشاكلها، وتهذيب ذوق وأخلاق أبنائه وأسرته... إلى غير ذلك من الفوائد التي لا تجد اعتبارا لدى الحركة الإسلامية ومنهجها التربوي. إن الذي يخالط عموم المواطنين وجلهم من المحبين لدينهم والغيورين عليه، والراغبين في الالتزام به، يدرك حاجتهم الملحة إلى "النشاط" الفني لأنفسهم ولذويهم لحمايتهم من الغزو الفني الساقط والميسر. ولن أكون مبالغا إذا قلت إنه في نفس الوقت الذي نحتاج فيه إلى وعاظ ودعاة، وأطر وخبراء، ومناضلين ومكافحين، نحتاج إلى فنانين ومبدعين يقدرون رسالتهم التربوية والاجتماعية وحتى السياسية، ويملئون فراغا كبيرا في المشروع الحضاري للحركة الإسلامية. وكم من أغنية أو مسرحية أو لوحة كاريكاتورية.. كان لها وقع وأثر في تاريخ شعوب بأكملها. فمتى نؤسس المدارس الفنية ويتخرج منها المبدعون رواد الفن الجاد و"المنشط" في آن واحد، ولقد طال الانتظار. العزيز رباح