في هذا الجزء الثاني والأخير من الحوار الصريح، ينتقد نعمان لحلو الفوضى التي يعرفها المجال الفني، ويعتبر أن النخبة المتغربة المتحكمة في هذا المجال هي المسؤولة عن إقصاء الفن المغربي الأصيل، وأنها هي التي تفرض ذوقها الخاص على المغاربة وتحرمهم من أن حرية اختيار ما يحبون وينتقد نعمان لحلو سياسة إغراق التلفزة العمومية بسهرات يهيمن عليها ''الفن الشعبوي'' الهابط، الذي تدرج فيه كلمات ساقطة لا يستطيع المغربي أن يستمع إليها وسط أسرته ومع أبنائه. ويدعو الدولة إلى التدخل لحماية المجال العمومي من الفن الهابط. ويرى نعمان لخلو أن الألوان الموسيقية الشبابية ليست إبداعا فنيا وإنما هي ثورات اجتماعية مغلفة بالموسيقى، ويعتبر أن هذه الألوان الموسيقية الشبابية لا يقدم فنا ولا إبداعا، وإنما تعتمد قوالب موسيقية جاهزة وتستعمل الحاسوب وتبحث بعد ذلك عن كلمات قريبة من اللغة السائدة لمخاطبة الطبقة الواسعة من الشباب النخبة المتغربة المتحكمة في المجال الفني تفرض ذوقها على المغاربة غنيتم عن مدينتين مغربيتين ''شفشاون'' و''تافيلالت''، وأيضا عن ''المدينة القديمة''، وهي أغنية تنوب عن مدن كثيرة ، المفروض أن البعد الوطني الحاضر فيها بقوة إلى جانب الأداء المتميز والإبداع الفني العالي، المفروض أن تجد هذه الأعمال دعما كبيرا، خاصة وأنها لقيت تجاوبا شعبيا منقطع النظير؟ إنني لم أربح شيئا من كل هذه الأعمال التي قمت بها. بالعكس لقد كلفتني خسارة مادية كبيرة، لكني لست نادما عليها لأنني أؤدي رسالة مجتمعية واضحة. أنا أشتغل وأقوم بسهرات وأكسب منها وكل ما أربحه أنفقه مرة أخرى في المجال الفني وفي الأعمال التي أصدرها. بالمعادلة التجارية، أعمالي التي قمت بها لم أكسب منها شيئا، وأنا حقيقة لا أنتظر منها أن تكون مصدر غنى لي، الذي يهمني أن تعيش هذه الأعمال وتبقى خالدة إلى جانب الأعمال الكبرى التي قام بها فنانون كبار. هذا هو المعيار الذي أتبناه وهو أن تبقى هذه الأعمال راسخة في وجدان الناس وذاكرتهم، وهو المعيار الذي يشعرني بأني ناجح في مسيرتي الفنية. ما علاقة نعمان لحلو بالجمهور؟ أو للدقة كيف ينظر الجمهور إلى نعمان لحلو؟ تعال أحضر معي في مهرجان زاكورة الذي دعيت إليه وسترى بأم عينيك كيف يتفاعل الجمهور من كل الفئات والشرائح مع أغاني نعمان لحلو. ستجد الكل حاضرا نساءا ورجالا وشبابا وأطفالا. معنى هذا أن المجتمع يتذوق الفن الراقي؟ المجتمع يتذوق الفن الراقي، لكن هناك من يتسبب في تردي ذوقه، ممن يخمل مقولة: ''الجمهور عايز كذا''. بأي حق أنت تتكلم باسم الجمهور؟ هل أنت وصي عليه؟. هذا أولا. ثم من الجانب الثاني، نحن حين نتحدث عن المغرب فإننا نتحدث عن مغربين. هناك مغربنا. وهناك مغرب الفئة المفرنسة المتغربة التي لا علاقة لها بثقافتنا ولا بحضارتنا. لكن للأسف هي التي لها القوة الاقتصادية وهي التي لها القوة التشريعية في كل ما له علاقة بالمهرجانات الثقافية والفنية. يمكن أن تسأل هذه الفئة عن الفنان المغربي فتح الله لمغاري، ستقول لك لا أعرفه، لكن إذا سألتها عن فنان غربية يمكن أن تخبرك عن أدق تفاصيل حياته، بما في ذلك ساعة نومه واستيقاظه وعاداته الصحية بل حتى مصمم أزيائه يمكن أن تكون على علم به. المشكل الذي وقعت فيه الدولة أنها لم تتدخل وأمسكت يدها، وتركت لهذه الفئة الفرصة للتحكم والهيمنة على المجال الفني وفرض أذواقها الخاصة على المغاربة. أليس غريبا في مدينة مثل الدارالبيضاء تقيم كل سنة مهرجانا، وهذه السنة وصل مهرجان الدارالبيضاء إلى دورته دون أن أدعى إلى أي دورة منه. هل ينتظرون من الفنان المغربي أن يترجاهم للحضور، هذا طبعا لن يحصل أبدا. أنا اسمي بارز والناس يتجاوبون مع الفن الذي أقدم، والأغاني التي أديتها أصبحت على لسان جميع المغاربة. لست أدري لماذا لا أستدعى للمشاركة في هذا المهرجان؟. للأسف لدينا نظرة دونية مستحكمة فينا، نحتقر فيها أنفسنا وكل ما له علاقة بنا، وفي المقابل لنا عقدة الآخر. الآخر نستقدمه ونكرمه بما يستحق وأحيانا بما لا يستحق حتى ولو كان ''الفن'' الذي يقدمه يقف على مسافة بعيدة من أعمال فنية رائعة يقدمها فنانون مغاربة. الذي لا أفهمه هو أنكم تقولون بأن الشعب يتجاوب مع فنكم، وفي الوقت نفسه تقولون بأنكم مهمشون ومقصيون عن المهرجانات الفنية؟ النخبة الفرنكفونية المتغربة هي التي تملك القرار في المجال الفني في المغرب وهي التي تحرم الشعب من حقه في اختيار ما يحب. الجمهور المغربي جميل ويتذوق الفن ويميز بين الفن الراقي والفن الهابط. معنى هذا أن سياسة تسويق الفن الهابط تلعب دورا كبيرا في إقصاء الفن الراقي؟ لقد سبق أن فسرت لك ما يجري على مستوى التلفزة، فأصحاب الإشهار هم الذين يتحكمون في المنتوج الفني الذي يعرض على التلفزة العمومية. فأصحاب الإشهار هم الذين يتحكمون في فرض ما يستمع إليه المغاربة من أغاني وما يتابعونه من سهرات. وأحيانا يتم إقصاء فنانين شاركوا في سهرات بثت وحققت نسب مشاهدة عالية لا لشيء إلا لأن هناك من يتحكم في ذوق المغاربة. فقد سبق لي أن شاركت في سهرات بثت في التلفزة وحققت نسب مشاهدة عالية وأملك على ذلك الأرقام والإحصائيات. لكن هناك من يعمل على فرض ذوق خاص على المغاربة. أنا لست ضد الفن الشعبي، فمنه أستمد جذوري الفنية، لكني ضد الفن الشعبوي الهابط. الموسيقى الشعبية المغربية رائعة جدا. لكن ما يصاحبها من كلمات أصبحت في الغالب رديئة لا تستطيع سماعها وحدك فما بالك إن كنت مع عائلتك أو وسط أسرتك الصغيرة. هناك أغان شعبية رديئة جدا من حيث الكلمات ولا أستطيع أن أسمعها لولدي. للأسف خمسة وتسعين في المائة من الأغاني الشعبية أصبحت كلماتها رديئة، وأستحيي أن أستمع إليها إن كنت مع ابنتي. أما الموسيقى فهي رائعة. هذا يجرنا إلى الحديث عن علاقة الفن بالمحتوى أو باللغة أو بالثقافة؟ المفروض في الفنان أن تكون له خلفية ثقافية واسعة. في الوقت السابق، كان الفنان موسوعة ثقافية يستمد أصوله الفنية من حقول معرفية متعددة. اليوم، الحال كما ترى يرثى له. وما رأيك في الألوان الموسيقية الشبابية التي انتشرت في الآونة الأخيرة؟ هذه ليست موسيقى. هذه ثورة اجتماعية مغلفة. فكما ظهر الروك والراي، اليوم نرى مثل هذه الألوان. ولو أن ظاهرة الروك أو ظاهرة الغيوان ظهرت في شكل ثورات لكنها عاشت لأنها جاءت بفن عميق وجميل له علاقة بالجذور وبأشياء كثيرة. بينما الراي والهيب هوب وغيرها من هذه الألوان الشبابية الجديدة فهي ثورات مغلفة بالموسيقى. قد تستجلب حشدا كبيرا من الجمهور، فقد سبق لي أن حضرت سهرة غنيت فيها وغنت فيها نادية أيوب وغنى فيها ''البيغ'' وسأكون صريحا إن قلت لك إن 90 في المائة حضروا من أجل ''البيغ'' والباقي ربما حضروا ليستمعوا إلينا. الإشكال ليس في الكم، لأن تقييم الفن إذا صار يعتمد معيار الكم والعدد فإن الفن سيدخل منعطفا خطيرا. لكن ألبوم ''البيغ'' مغاربة حتى الموت يتضمن كلمات وعبارات رديئة وساقطة جدا فكيف يستطيع حشد كل هذا العدد؟ كما قلت لك هذه ثورة مغلفة بالموسيقى. وحتى بالمعيار الموسيقي، فأنا لا أجد في هذه الألوان الجديدة إبداعا يذكر، هناك استثناءات قليلة مثل فرقة ''الفناير'' لأنها تقدم أعمالا فنية رائعة. هؤلاء لا يقدمون فنا ولا إبداعا، وإنما يركبون قوالب موسيقية جاهزة ويستعملون الحاسوب ويبحثون بعد ذلك عن كلمات قريبة من اللغة السائدة ليخاطبوا الطبقة الواسعة من الشباب. فالشاب ''بلال'' مثلا يستعمل خطاب الشارع، وشيء طبيعي أن يتجاوب معه هذا الشارع. فحين أتحدث مع طبقة شعبية بلغتها يمكن أن أكسبها بسرعة، ولكن بأي لغة وبأي هدف وبأي رسالة؟ هذا هو الإشكال. بالنسبة إليك ما هي رؤيتك؟ هل يطلب من الفنان أن يرقى بذوق الجمهور أم يطلب منه أن ينزل إلى الجمهور ويستعمل اللغة التي تجدب أوسع الفئات؟ الفنان ليس مهنة، ولكنها صفة، أما المهنة فهي الموسيقى أو المطرب أو الملحن. الفنان صفة تعطى للذي يستحق صفة الفنان. وهي صفة تظهر في إبداعه وأخلاقه وتوجهاته. أنا أعتقد أن الفن إذا لم يسم بالناس فهو ليس بفن. هناك معادلة ثلاثية في الحياة. لديك العقل والجسم والروح مثل أرجل الكاميرا الثلاث. إذا اختلت رجل من هذه الأرجل سقطت الكاميرا. وكذلك إذا اختل بعد من أبعاد الحياة الثلاثة اختل الإنسان. والروح فيها أشياء كثيرة: فيها الدين والفن والثقافة، والعقل أيضا يدخل ضمنه أشياء كثيرة مثل التعلم والفكر، والجسم تندرج تحته أشياء كثيرة تخص الصحة والتغذية وغير ذلك. نحن للأسف نهتم فقط ببعدين اثنين: نهتم بالعقل والجسم. وقليل من يهتم بالروح. علما أن التوازن لا يحصل بإقصاء البعد الروحي. والحقيقة أن الإنسان حين يحصل له التوازن بين أبعاده الثلاثة لا شيء بعد ذلك يهمه لأنه يحصل على الراحة النفسية والسعادة التي يبحث عنها. أنا أتفهم أننا نمر اليوم في المغرب بمرحلة انتقالية. وهي مرحلة نتقدم فيها بدون شك، لأن المغرب الذي نعيشه اليوم هو أفضل بكثير من المغرب الذي كان منذ عشر سنوات خلت. المجتمع يتطور، وما يحصل في الموسيقى هو جزء من التطور الذي يحصل في المجتمع. لكن المفروض أن نخرج من هذه المرحلة الانتقالية، فطموحي هو أكبر بكثير مما تقتضيه التحولات التي نعيشها في هذه الفترة الانتقالية لأن لدينا ثقافة وحضارة، وإذا لم ننتبه إليها ونتمسك بها فيمكن أن تضيع بشكل كلي في الأربعين سنة القادمة. أتصور أننا إذا لم نحافظ على هذه الثقافة والحضارة، فلن تجد أحدا في الأربعين سنة القادمة يعرف معنى الملحون والآلة والعيطة وأحواش. في نظركم ما الذي ينبغي فعله من أجل الحفاظ على هذا التراث والتمسك بأصول ثقافتنا وحضارتنا في المجال الفني؟ الدولة يجب عليها أن تتدخل بقوة. ويجب عليها أن تشترط في دفاتر تحملات الإذاعات والتلفزة الدعم للمنتوج الفني المغربي وتشجيع الإبداع الوطني وتشجيع تصدير فننا إلى الخارج. نحن للأسف لا نصدر فننا. والفنان المغربي إذا تجاوز مدينة طنجة لا يكاد يعرفه أحد. كن متأكدا من هذا الأمر. لقد كنت في رحلة في الشرق الأوسط الأيام القليلة الماضية (عن إجراء الحوار) وأجريت معي مقابلات تلفزيونية قوية جدا. وواجهتهم في عقر دارهم وقلت لهم ''نحن نعرف عنكم كل شيء، لكنكم لا تعرفون عنا أي شيء''. والجواب الذي يردون به علينا هو أننا كمغاربة لا نقوم بأي جهد إعلامي لتقديم فننا إلى الخارج. بلا شك هم يعرفون فنانين مغاربة يعيشون في المشرق، لكن هم في الحقيقة فنانون مغاربة بأساميهم وليس بمحتوى ما يقدمون. فعلى سبيل المثال حين تنشب حرب معينة، يلتحق أبناء البلد بالجيش للدفاع عن بلدهم، وكذلك الأمر حين يكون لك هوية وتراث وانتماء، المفروض على المثقف والفنان أن يدافعوا عن هذه الهوية. وإذا ما تخلوا عن تلك الهوية يصيرون للأسف فنانين مرتزقة. من خلال هذه الرؤية فإنكم تلومون وزارة الثقافة أو الهيئات المعنية بهذا القطاع لأنها لا تفكر في تصدير الفن المغربي إلى الخارج ولا تسهر على أن يكون الفن المغربي حاضرا في الخارج؟ للأسف المغرب لا يملك استراتيجية ثقافية وفنية. حتى الأسابيع التي تنظمها سفارات المغرب في دول العالم، المنطق الذي يحكم فيها هو الزبونية والصداقة. أما أن تكون هناك استراتيجية تطرح سؤال ماذا سأقدم؟ وما المضمون المغربي الذي سيتجاوبون معه؟ وكيف أجذبهم إلى الفن المغربي الأصيل؟ هذه للأسف أسئلة خارج الاهتمام. قد أستجلب فرقة للدقة المراكشية إلى السويد مثلا، وقد يتجاوب معها السويديون دقيقتين أو أكثر، لكن هذا يخلق الفرجة ولا يخلق فنا، والناس هناك يبحثون عن الفن وليس عن الفرجة. أنتم من خلال تجربتكم في الخارج. هل لمستم من الفن الذي تقدمونه هناك أي تجاوب مع الفن المغربي؟ للأسف قليل. ما السبب في ذلك؟ الدارجة المغربية غير مفهومة. لكن حين أغني باللغة العربية يقع تجاوب كبير. ففي دمشق حين غنيت بالدارجة كان التجاوب ضعيفا، لكن حين غنيت الآلة، جن جنونهم. يقولون لنا المغاربة لديهم عائق اللهجة. فأرد عليهم ولماذا لا يجد المغاربة أدنى عائق بخصوص لهجاتكم في المشرق. ربما هذه خصوصية منحها الله للمغاربة دون غيرهم، فتجد المغربي يجيد كثيرا من اللغات ويتجاوب مع كل اللهجات. ولكن أيضا نحن لدينا عقدة الآخر التي هجمت علينا، ولا نصدر ثقافتنا مع العلم أنها سلاح قوي لم نعرف كيف نستعمله. تقول في سؤالك وزارة الثقافة. هذه الوزارة إمكاناتها المالية جد ضعيفة وهي ربما أفقر وزارة في المغرب. ومع ذلك تجتهد في إطار هذه الإمكانيات. مؤخرا صدر مشروع دعم الفنان. المشكلة أكبر من وزارة الثقافة. المشكلة تكمن في عدم وجود اهتمام بدعم المنتوج الفني الوطني. لقد تم صرف مليار على فنان واحد في مهرجان ''موازين''، ولو تم صرف مليارين طيلة السنة لدعم الفن المغربي لكان لذلك أثر بالغ على تطور الإبداع المغربي. أليس غريبا أننا لا نملك في التلفزة ولو برنامجا واحدا يهتم بالإبداع الفني والغنائي لا في القناة الأولى ولا في الثانية. عندنا فقط سهرات تبث يوم السبت. لا يوجد برنامج واحد يهتم بكتابة الأغنية وبالتلحين وبالإبداع. ليس لدينا مهرجان واحد من ضمن أكثر من مائة مهرجان يهتم بالإبداع. ما يهم هو جمع الحشود، فكأن الأمر صار سوقا. لقد قالها عبد الوهاب الدكالي بصراحة في سوق البشرية''كلشي كيتباع'' لكن مع ذلك يحذوني أمل كبير وأتمنى أن تكون مرحلة عابرة. حتى الفنانين الكبار مثل عبد الوهاب الدكالي وعبد الهادي بلخياط..؟ مقاطعا.. هؤلاء في بيوتهم. لا أحد يعطيهم المكانة التي يستحقونها. لا أقول إنهم لا يدعوننا للمشاركة. إنهم أحيانا يفعلون ذلك، لكنهم يضعوننا في مرتبة رابعة ويحقرونك لا لشيء إلا لأنك ابن البلد تدافع عن هويته وثقافته وحضارته، وحين تصلنا دعوة بهذه المواصفات المهينة نعتذر لهم عن الحضور ونتمسك بكرامتنا. مهرجانات أقيمت في فاس ومراكش والدارالبيضاء وآسفي، ولا مرة تم فيها دعوتنا بما يليق بالفنان المغربي. أنا لا أريد أن أعطي لهذه القضايا أكثر مما تستحق. لكن دعني أقول لك بفخر: رغم كل هذه المعوقات الفن الصادق يعيش ويستمر. لن تستطيع أن تتصور حين أخرج إلى الشارع كم يتم الاحتفاء بي من طرف الناس حتى أصبحت أتجنب الخروج في كثير من الأوقات. حب الناس لي ولفني غمرني، والعجيب أن جميع الشرائح تحب الفن الذي أقدمه سواء كانت فقيرة أو غنية، كبارا وصغارا. فالناس يحبون أيضا وبشكل كبير عبد الوهاب الدكالي وبلخياط ونعيمة سميح ولطيفة رأفت ويشعرون أننا نشكل بحق رموز الأغنية المغربية. في الشارع يغمرنا حب الناس، ويصل الأمر ببعض رجال الجمارك أن يحملوا لك الحقيبة في المطار تقديرا للفنان المغربي فنشعر بالحياء يغمرنا من هذا التقدير الذي يكنه الجميع لنا. فالشعب المغربي بشرائحه الواسعة يحب الفن المغربي ويقدر رموزه، لكن تلك الفئة الفرنكفونية المتغربة الماسكة والمهيمنة على المجال الفني المغربي هي التي تخرم هذا الشعب وهي بالمناسبة ليس لها أي علاقة بالثقافة المغربية. في نظركم هل يمكن للفن الراقي مثل الذي تقدمونه أن يصمد في ظل الإكراهات التي تحدثتم عنها وفي ظل الهيمنة التي تمارسها هذه الفئة المتغربة المتحكمة في المجال الفني في المغرب؟ وهل تتصورون أن يقوم الفنانون بحراك في اتجاه تصحيح هذه الأوضاع المختلة؟ الحركية مطلوبة. لكن للأسف، هناك بعض الجهات التي تتحدث باسم الفنانين، لكنها في الحقيقة أقرب إلى وكالات تجارية وهي في رأيي لا علاقة لها بالفن. فهؤلاء يتسولون باسم الفنانين ويطلبون الأراضي من المسؤولين باسم الفنانين. ولذلك أنا لست مطمئنا عن مستقبل الفن المغربي الأصيل. لكن هناك من يسوق في المغرب لوجود إبداع فني ويقدم كدليل على ذلك الحركية التي عرفتها المهرجانات التي زادت عن المائة مهرجان؟ من يتحدث عن الإبداع في المجال الفني في المغرب عليه أن يقدم النماذج. هناك نماذج قليلة تسبح ضد التيار، وإذا أردت أن تجمعها فلن تجد أكثر من أصابع اليدين. مجهودات فردية هنا وهناك لا أحد يلتفت إليها، وحتى الإذاعة التي كانت تقدم أعمالهم تخلت عنهم بحجة العولمة. والإذاعات الخاصة التي برزت مع تحرير المجال السمعي البصري أليس لها دور في تشجيع الإبداع الفني المغربي؟ لها دور فقط في الإشعاع الإعلامي، لكن على مستوى الإنتاج لم يحدث أن قامت الإذاعة عمومية كانت أم خاصة بدعم إنتاج الأغنية المغربية. فهذه الإذاعات تستهلك الأغاني التي يؤديها الفنانون المغاربة دون أن تقوم بالإنتاج أو على الأقل المشاركة في الإنتاج. وبالمناسبة، وللإنصاف، فإن القناة الثانية قدمت لي دعما في أغنيتي ''تافيلالت'' من خلال مساعدتي في تصوير ''الفيديو كليب''. أنا في كل هذا لا أتحدث عن نعمان لحلو كشخص، فرغم كل ما قلته لك، أنا أعتبر من القلة القليلة التي تعيش. أنا أعيش بفني من غير أي مشاكل وأقولها بكل صراحة. وهذا يشاركني فيه الفنانون المغاربة المحترفون مثل الدكالي وبلخياط وغيرهم وهم بالمناسبة لا يشكلون إلا قلة قليلة. أما بقية الفنانين، فهو يعيشون بما اتفق. في الآونة ألأخيرة برز اهتمام كبير بالسينما دعما وإنتاجا لماذا لم يمس هذا الدعم الأغنية المغربية؟ كنا نتمنى أن يكون نصيب الأغنية المغربية من الدعم والعناية والاهتمام مثل ما نالت السينما المغربية. لكن للأسف لا التلفزة ولا الإذاعة تقومان بدعم الأغنية المغربية. وأعتقد أن المسرح مثله مثل الأغنية المغربية يعاني. هناك اهتمام بالفن التشكيلي. كنا نتمنى أن تهتم البنوك بدعم الأغنية المغربية بالقدر الذي تهتم فيه بدعم الفن التشكيلي. فالحل في اعتقادي لا يمكن أن يأتي إلا من القطاع الخاص وليس من الدولة. الدور المطلوب من الدولة هو أن تحمي الفضاء العمومي من الفن الهابط. للأسف هناك أغنيات كلماتها جد هابطة، كيف سمح لها بالمرور؟ في الماضي لم تكن لتمر أبدا. كانت هناك لجان ترفض أن تمر الأغاني الهابطة. كسؤال أخير هذه الفوضى التي يعرفها المجال الفني في المغرب كيف يمكن أن نحرر الفن منها وما هي المقاربة التي تقترحها للنهوض بالفن في المغرب؟ سأعطيك مقترحات ملموسة حتى لا نعيش في الحلم. أول شيء لا بد لنا على الأٌقل من برنامج أسبوعي يبث في القناة الأولى أو الثانية خاص بالإبداع يتابع حصيلة الإبداع حيث تقدم الأعمال الجميلة وتبرز كي ترشح للمشاركة في المهرجانات. ثم نطلب من جميع منظمي المهرجانات أن يحترموا كوطا خاصة بالفنانين المغاربة. ونطلب من جميع الشركات، وهي بالمناسبة لا تتجاوز أربع أو خمس شركات كبرى أن تشجع الفن المغربي وأن تقدم هامشا من مصاريفها لتشجيع الفن والإبداع المغربي والإنتاج الفني ونتخلى رسميا عن عقدة الآخر. ما رأيك الأستاذ نعمان لحلو من استوديو دوزيم؟ أليس هذا البرنامج خاصا بدعم الإبداع؟ لاسيما وأننا نرى فيه شبابا يأتون ويشاركون وبعد ذلك يسوقون بسرعة ويشتغلون أيضا بالسينما؟ التلفزيون بصفة عامة في كل بلاد الدنيا يبيع الوهم. هذا الوهم الذي نبيعه للشباب، أو ما يسمى بالدارجة المغربية ''سبعيام ديال الباكور''، يمكن أن تكون إيجابية إذا استطاع الشخص الذي وضع تحت دائرة الضوء لمدة شهر كامل أن يجتهد وأن يستثمر هذه الانطلاقة للبروز. فهناك من لم ينل هذا التركيز الإعلامي على شخصه حتى اجتهد في مسيرته الفنية لمدة ثماني سنوات أو أكثر. الذي يقع أننا نكثف الضوء على شباب لمدة شهر أو شهرين، ثم بعد ذلك لا نتابعه، وهولا يتابع نفسه لأنه تعود أن يقوم له الآخرون بكل شيء. والمشكلة أن لدينا في المغرب ثلاثة أصناف كلهم يتداخلون في الوسط الفني: فلدينا فنانون ولدينا جهال ولدينا أيضا أنصاف الفنانين. وهذا الصنف الثالث هو أخطر شيء يمكن أن يضر بالمجال الفني. والعيب ليس فيهم بل فينا جميعا لأن الواقع يؤكد أن الذي ليس له أي حرفة لا يجد أمامه إلا صفة فنان ينتحلها وليس لك الحق أن تزيلها له. صحيح أن لدينا في المغرب اليوم بطاقة الفنان لكن للأسف هي غير مفعلة، فهي بمثابة بطاقة ائتمان من غير رصيد. أنا لست من هواة المعارك، وليست لدي أي مشكلة مع وزارة الثقافة. بل بالعكس أنا أتوسم في الأستاذ بنسالم حميش خيرا ، فالرجل يحب وطنه، ويعشق اللغة العربية ويعشق الهوية المغربية، لكن السؤال ما الإمكانات التي رصدت له في وزارة الثقافة لدعم الفن المغربي. هذه الوزارة فقيرة وليست لها الإمكانات الكافية حتى تقوم بدورها في دعم الفن وتشجيع الإبداع المغربي. ولذلك إن الأمر يتعلق بدور القطاع الخاص. أنا لدي مشروع ضخم أقسم أنني لو وفقت لإنجازه لتغيرت نظرة المغاربة للآلة الأندلسية ولتجاوز الفن الأندلسي مدينة طنجة وتطوان إلى رحاب أوسع، لكن كلفة هذا المشروع لا تقل عن ثلاث ملايين درهم ، وهو ما لا أملكه. لكني أقولها وأكررها سأقوم بإنجاز مشروعي كيفما كلفني وحالما كنت قادرا عليه. فهو حلم حملته معي مدة عشرين سنة ولن أتردد في إنجازه. إذا لم يكن لدينا انتماء حقيقي لهذا الوطن وتمسك بهويته ورصيد ثقافته فلن نستطيع أن نواجه سيل العولمة المتدفق الذي إن سايرناه فسيأتي على الأخضر واليابس، ولن يبق لنا شيء اسمه ثقافتنا وكياننا. العولمة خطيرة جدا. ولقد أحسسنا بها خاصة في المجال الثقافي. لأن هدفها أن نصير كلنا على نموذج واحد يفرضه الأقوى تقنيا، ونحن نعرف أننا لسنا الأقوى تقنيا وبالتالي سوف نضيع.