ولعل من مؤشرات سراب المفاوضات الجارية، أن الوفود المشاركة، وحتى قبل أن تحزم حقائبها باتحاه المكان الموعود، تعتمد تقنية الخرجات الإعلامية الإستباقية، فتقدم تصريحات بمثابة خطوات احترازية و احتياطية، تدفع عنها شبهة إفشال المفاوضات مع التلميح إلى فرضية استمرار الوضع على ما هو عليه. فقبل اجتماع ؟يينا الأخير (غشت 2009)، صرح إبراهيم غالي، سفير الجبهة في الجزائر أن مقترح الجبهة بحق الشعب الصحراوي في تقرير مصيره، أفقد مقترح الحكم الذاتي المغربي محتواه مضيفا: الاستفتاء هو الحل الوسط (7) و حسب مصدر من رئاسة الجبهة: اللقاء نفسي أكثر منه عملي (8) أما محمد يسلم بيسط، الوزير المنتدب المكلف بإفريقيا لدى خارجية الجبهة (و الذي راج في فترة سابقة، أنه أحد القيادات التي تم إحكام الطوق عليها مخافة عدوىأنفلونزا العائدين) فقد صرح أنه لا يتوقع حصول تقدم في المفاوضات (9)؛ أما عن التصريحات التالية للقاء المذكورة، فلنأخذ كنموذج ما ورد على لسان وزير خارجيتنا السيد الفاسي الفهري، إذ أشار إلى أن الاجتماع كان فرصة سانحة للوفد المغربي ليبرهن عن جدية مبادرة الحكم الذاتي و عن شرعية هذه المبادرة (10) مَهْ ! يبرهن لمن يا ترى؟! للوسيط روس، الدبلوماسي الداهية و أحد أرطبونات أمريكا، الذي هم بصدد هندسة حل يستوعب و يتجاوز المعروض حاليا لوضع حد للمأزق الراهن كما تقول القرارات الأممية؟! أم للخصم الذي سبقت مواقفه (كما سبق أعلاه) حضوره؟!...؛ أما حديثه عن الجدية و الشرعية، فلعله إحالة على ما ورد في القرارات الأممية الأخيرة (من 1754 إلى 1920)، وهذه تكلمت عن الجهود المغربية المتسمة بالجدية و المصداقية، أما عندما تكلمت عن المبادرة المغربية، فقد أشارت إليها بالقول وإذ يحيط علما بالمقترح المغربي الذي قدم إلى الأمين العام في 11 أبريل,2007 تماما كما أشارت إلى الرأي الآخر من الاتجاه المعاكس و إذ يحيط علما أيضا بمقترح جبهة البوليساريو المقدم إلى الأمين العام في أبريل 2007؛ وحتى بالرجوع إلى ما استقر عليه نظر أعضاء مجلس الإمن الدولي، كما هو وراد في متن القرار الأممي ,1920 و الذي رفعه-للأسف-الناطق الرسمي باسم الحكومة مكانا عليا، نجد أن النقطة الثانية فيه، ترتبط بتأييد مجلس الأمن للتوصية التي وردت في تقرير الأمين العام المؤرخ ب: 14 أبريل، وهي التوصية الوحيدة التي أشار إليها القرار؛ أما مضمونها - للتأمل - فهو ما جاء في الفقرة 73 ( التوصية الثانية)، ص 19 من تقرير الأمين العام عن الحالة فيما يتعلق بالصحراء الغربية، و فيها: وإنني أوصي مجلس الأمن، بأن يكرر دعوته للطرفيين، المغرب وجبهة البوليساريو، إلى التفاوض بحسن نية وبدون أي شروط مسبقة، برعاية مبوعوثي الشخصي، وإلى إبداء الإرادة السياسية اللازمة للدخول في مناقشات موضوعية لكفالة نجاح المفاوضات، و أن يكون ذلك حيثما أمكن، من منطلق مقترحيهما، مع زيادة صقل مضمون ذينك المقترحين، وإذا أريد إحراز تقدم، فلابد من توافر روح الإبتكار وسعة الأفق. فالجهود المغربية أضحت جدية ومرحبا بها، لأن المغرب استوعب درس خطة بيكر,2 وأيقن أنه بدون تعبئة داخلية ومساندة خارجية وازنة، لمقترح يحترم المعايير الدولية، فلا يمكن الحديث عن مصداقية، ومن ثم ، كان لزاما البدء بتنقية الأجواء في المجال الحقوقي (هيئة الإنصاف والمصالحة، ثم إحداث تمثيلية أكثر ديموقراطية لصحراويي الداخل الكوركاس في نسخته الثانية)، و أخيرا، بلورة مشروع الحكم الذاتي، الذي قدم فيه الفاعل الحزبي مقترحاته، و تم تسويقه في أهم العواصم العالمية، قبل عرضه رسميا أمام المنتظم الأممي، أما حديث وزيرنا عن الشرعية، و المقصود الشرعية الدولية، فدونها خرط القتاد الجزائري، و إنما الأصح أن نتكلم عن مشروعية المبادرة، والأهم من ذلك، أن نبدع أولا في تطوير و تصليب مضمونها، و أن نجتهد ثانيا، ومن خلال الفعل الميداني، في حشد الدعم الداخلي والخارجي لها؛ وللأسف فمثل هذا الإلتباس، نلمسه أيضا، عندما يتم الحديث بقدر من التدليس عن تنفيد القرارات الأممية السابقة، التي تكلمت عن حل سياسي متفاوض بشأنه، لكنها ربطته بمآل تقرير المصير (القرارات 1754و1783 عام 1813 ,2007 عام 1871 ,2008 عام ,2009 و أخيرا 1920 عام 2010): إذ الملاحظ أنه يتم التركيز فقط على فقرة مع أخذ الجهود المبذولة منذ عام ,2006 و التطورات اللاحقة لها في الحسبان ، و إسقاط الجملة الأخيرة من الفقرة ذاتها: يكفل لشعب الصحراء الغربية تقرير مصيره في سياق ترتيبات تتماشى مع مبادئ ميثاق الأممالمتحدة و مقاصده، و هذه الجملة، تتكرر دائما في مستهل كل قرار أممي ،من المشار إليها أعلاه، فلا يكفي الحديث فقط، على أن مشروع الحكم الذاتي هو صيغة من صيغ تقرير المصير، و لكن ينبغي الإجتهاد لبلورة رؤية فقهية قانونية ،ترتكز على مبادئ ميثاق الأممالمتحدة و مقاصده، و هذه المفردة الأخيرة، ينبغي الوقوف عندها مليا، لأن منطق الأشياء يؤكد فعلا أن الأمور بمقاصدها و أن القوانين بروحها؛ و من هذا المنطلق ، و بناء على أن المقاصد هي الحكمة من الأحكام ، يجدر استثمار مالنا من الكفاء ات الوطنية في الحقول المعرفية المختلفة (قانون،سياسة، تاريخ، اجتماع....) من أجل صياغة منظومة قانونية مقاصدية متكاملة، خصوصا و أن الكثير من الأصوات تتعالى اليوم ،من أجل إعادة النظر في مجمل القانون الدولي المعاصر. و بهذا الصدد، يقول الناشط الحقوقي الدولي في جنيف و المدير التنفيدي لمنظمة شمال جنوب 21 لحقوق الإنسان :...الأزمة القيمية التي يعيشها نظام الأممالمتحدة على مستوى مواثيقه و توجهاته، و على مستوى غياب العدالة الدولية، و الملاحظ أن النظام الدولي يحاول أن يخفي هذا الضعف الدولي ،وذلك بحرف الأمور و تصريفها إلى دول العالم الثالث في شكل قضايا حمائية، و قضايا الحصار ، و مكافحة الإرهاب ،و غيرها من القضايا كنوع من صرف الإتجاه و تحويل النظر عن الأزمة الداخلية و الأزمة القيمية التي يعيشها النظام الدولي، و الكل يعلم هذا و يعرف أن هناك أزمة في هذا النظام و يدرك أنها في حاجة إلى إعادة النظر في النظام الدولي .هذا التقييم، ليس تقييما ذاتيا خاصا بي، و لكنه تقييم يتقاسمه العديد من الناشطين الدوليين في أمريكا اللاتينية و في جنوب إفريقيا، و شخصيا التقيت بخبير و رائد دولي في حقوق الإنسان، هو إسكوتو دوكمان، الآن فرس معركته هو تغيير ميثاق الأممالمتحدة، و إنتاج ميثاق جديد لأن الميثاق الحالي، أصبح باليا و مستهلكا، و لم يعد مناسبا للتحول العام الذي يعرفه العالم في ظل العولمة (11)، كما أنه من المعلوم في القرارات و المبادئ الدولية، أن هناك المبدأ وتعبيراته، فالإعلان العالمي لحقوق الإنسان، أو الإعلان الدولي الخاص بالحقوق المدنية و السياسية و الحقوق الإقتصادية و الثقافية عُرْفٌ، تترتب عنه اتفاقيات و بروتوكولات مواكبة للتطورات و الإشكالات السياسة و الإنسانية التي تطرح على المجتمع (12)، و في ذات السياق ،يشير الأستاذ لكريني في مقال له حول الحكم الذاتي و قضية الصحراء إلى أنه : يبدو هذا الطرح (أي المقترح المغربي) موضوعيا و واقعيا إذا ما ا ستحضرنا أن العديد من المبادئ التي أقرها القانون الدولي ، من قبيل عدم التدخل في الشؤون الداخلية و المساواة في السيادة، تطورت و لم تعد بالقداسة و الصرامة التي كانت عليها سابقا، نتيجة لمجموعة من التحولات الإقتصادية و الإجتماعية و السياسية التي أفرزها تطور العلاقات الدولية في العقدين الأخيرين، فهي (التحولات) تتيح التعامل مع مبدأ تقرير المصير بنوع من المرونة و الواقعية، لأن الحكم الذاتي يمكن أن يشكل امتداد لتقرير المصير، إذا مورس في إطار ديموقراطي و ضمن اختصاصات حيوية و هامة ،و قد سبقت الإشارة في مقالة لنا (13)، إلى أن مقاربة المبعوث السابق والسوم سوف يكون من الصعب على خلفه تجاوزها أو القطيعة معها، خصوصا وأن القرارات الأممية الأخيرة، ما انفكت تدعو الأطراف المعنية إلى التحلي بالواقعية و روح التوافق، و الإستمرار في التحلي بالإرادة السياسية؛ كما أن إقرار توصيات مجلس الأمن بالحل السياسي المتفاوض بشأنه، و التجاوز الضمني لمخطط الإستفتاء (لم يرد لحد الآن نص قطعي من المنتظم الدولي يقول بإلغاء أو تجاوز أو التخلي نهائيا عن آلية الإستفتاء، بل إن الكلمة المختصرة مينورسوتعني حرفيا بعثة الأممالمتحدة لتنظيم الإستفتاء في الصحراء الغربية و التي أنشئت طبقا للقرار الأممي 690 بتاريخ 29/04/,1991 حين تحدث عن تقرير المصير دون تحديد آليات لذلك، يجعل الباب مشرعا للإجتهاد و القراءة، و التقدير و التنزيل على أرض الواقع ، مع تأكيدنا على إبقاء النزاع في إطاره السياسي، و ليس القانوني كما تريد الجبهة؛ و نظرا لمخاطر الإنفصال على العوالم العربية و الإفريقية و الإسلامية بالدرجة الأولى، أفلا يكون الأجدر الدعوة إلى قمة دولية لتدارك الأخطار المحدقة و الفتن النائمة؟! فلا ننسى أن هناك مشروعا صهيونيا بغطاء أمريكي اسمه الشرق الأوسط الجديد ،يتغيا إقامة دويلات على أسس عرقية أو إثنية أو دينية أو جهوية، وهو ما تم تجريبه بشكل سافر في العراق، ويتم تفعيله في السودان (الجنوب أولا ثم دارفور من بعد)، والخلاصة، أن استشراف آفاق هذا النزاع المستدام، يقتضي إعادة النظر في كل الإتفاقيات والمواثيق ذت الصلة، وتقليب صفحاتها وفق منهج علمي نقدي رصين، بما يفسح المجال أمام أفكار ومقترحات وآليات تحقق مقاصد للإنسانية جمعاء. وكما يطالب السيد الحليمي ، المندوب السامي للتخطيط، بضرورة إعادة النظر في المعايير والمؤشرات المعتمدة في التقارير الدولية (ومن آخرها، تقرير المنتدى الإقتصادي العالمي حول التنافسية، إذ سجل المغرب تراجعا جديدا في الترتيب باحتلاله الرتبة 75 من أصل 139بينما كان يحتل في السابق الرتبة 73) خصوصا ما تعلق منها بالتنمية البشرية، وهو رأي وجيه رغم أنه لا يرفع واقعا نعيشه و نلمسه أكثر مما تُجَلِّيه تلك التقارير، فإن على خبراءنا، خصوصا ذوو الإختصاص في مجال القانون الدولي علما بأن لنا لجنة وطنية للقانون الدولي الإنساني الإسهام في إعادة قراءة هذا القانون و الإسهام في تحيينه، بناء على التراكمات الحاصلة منذ سقوط جدار برلين ونهاية الحرب الباردة؛ ذلك أن المحافظة على الإرث الحضاري والخصوصيات الثقافية و العمل على تلاقحهما ورفع درجة تعايشهما وتفاعلهما الإيجابي من جهة، ودور التكتلات في مواجهة الأزمات الإقتصادية والإجتماعية من جهة أخرى، لا ولن يستقيم مع النزوعات الرامية إلى مزيد من البلقنة وتفريخ كيانات لا تعدو كونها بؤر توتر وعنف وتنازع خطير، يصعب تحجيمه أو لجمه (تيمور الشرقية نموذجا)، خصوصا وأن القرار الأممي رقم 1514 في بنده 6 يقول: كل محاولة ترمي إلى القضاء الجزئي أو الكلي على الوحدةالترابية لبلد ما، ستكون مناقضة لأهداف ومبادئ الأممالمتحدة. هوامش 7- الجريدة الأولى، ع: 381؛ 2009 08 12 8- الجريدة الأولى، ع: 380؛ 11 - 08 - 2009 9- أخبار اليوم، ع: 138؛ 10 - 08 - 2009 10-الصحراء المغربية، ع: 7344؛ 13 - 08 - 2009 11-التجديد، ع: 2443؛ 06 - 08 - 2010 12-الأستاذة أمينة بوعياش، الصحراء الأسبوعية، ع: 86؛ 06 - 07 - 2010 13 المساء، ع: 642؛ 13 - 10 - 2008