رغم زهده في المناصب والشهرة الإعلام تأبى التحولات التي يعيشها المغرب والعالم إلا أن تخرجه من الظل إلى الظهور.الدكتور محمد الأوراغي لايقل وزنا عن صديقه ورفيق دربه الدكتور الفيلسوف المجتهد طه عبد الرحمن. فهما يتقاسمان الكثير من الهموم والمشاغل والمسؤوليات.تقاسم جعلهما ينصهران في بوتقة واحدة.وإذا كان عبد الرحمن طه منبثقا من فلسفة اللغة والمنطق،ومجتهدا لايشق له غبار في هذا الميدان الشائك،فإن محمدا الأوراغي شق الظريق من اللسانيات ودروبها الوعرة،وعندما هضم مافيها هضما انبعث منه اجتهاد لساني عالمي أسقط به نظريات «تشومسكي»،وبنى على أنقاضها نظرية النحو التوليفي.لم يؤلف من الكتب الكثير،غير أن رسالة دبلوم الدراسات العليا في «اكتساب اللغة في الفكر العربي القديم»،ورسالة دكتوراه الدولة في»الوسائط اللغوية»،تشهدان للرجل بالرسوخ في علم اللغات والتمكن من أدوات الاجتهاد.وبالإضافة إلى ذلك كتب الدكتور اللساني مقالات متخصصة في منابر إعلامية مغربية ومشرقيةولايزال لديه المزيد.رئيس سابق لاتحاد اللسانيين المغاربة(1989،1994)وعضو في لجنة المعجم العربي الحديث،وعضو في المكتب التنفيذي لجمعية المؤرخين المغاربةوفي اللجنة العلمية لمجلة التاريخ العربي منذ1995،وأستاذ زائر بجامعات آسيوية وأفريقية وبالمعهد الأوروبي للعلوم الإنسانية بفرنسا،ومن المنتظر أن يكون عضوا في اللجنة الإدارية لمنتدى الحكمة للمفكرين والباحثين المولود يوم 9مارس2002بالرباط،والذي اختار الدكتور طه عبد الرحمن رئيسا له. اجتمعت كل هذه المؤهلات العلمية والتجارب الغنية لتدفع بالدكتور محمد الأوراغي إلى الانتقال من دائرة التخصص العلمي اللغوي الدقيق إلى المشاركة في النقاش العالمي الدائر حول العولمة وموقع الثقافة الإسلامية في البناء الفكري للعالم.ولذلك استدعي الرجل إلى الندوة الدولية المنعقدة بوجدة يومي 5و6فبراير2002حول العولمة وسبل تجاوزها.وهناك شارك بورقة هامة عن «شروط إسهام الثقافة الإسلامية في بناء حضارة إنسانية».(ستنشرفي مجلة المنعطف الفصلية قريبا). في تلك الورقة انطلق الدكتور محمد الأوراغي من مقدمة حددفيها تصويبه نحو إمكانات تجاوز العولمة،ومؤهلات الثقافة الإسلامية.رتب هذه الأخيرة في علميتها إذ أنها لاتنتمي إلى قوم دون قوم،وأزليتها،قدرتها الاستيعابية الكبيرة.ثم توجه صوب العولمة ليظهر استبهام مدلولها،واتصافها بصفة الإكراه.ثم انعطف على الثقافة المحلية ليظهر انتصارها على العولمة ضاربا المثل من قلب اللسانيات مجل تخصصه العالي .وعاد إلى الإكراه العولمي ليشرح تخليطاته الفكرية . نقدم للقراء الكرام الجزء الأول من هذه الورقة الهامة على أن نقدم الجزء الثاني في أقرب فرصة. حسن السرات العولمة أحد شروط التجاوز بأي معنى تكون العولمة قد جمعت بين العلة المنشطة لتجاوز الليبرالية الجديدة وبين كونها شرطا خارجيا لأن تنتج الثقافة الإسلامية نمطا حضاريا مغايرا للنمط السائد حاليا. استهلال هذا المبحث بالسؤال المذكور يعني التعجيل بتحليل دلالات العولمة من أجل الكشف عن معنى فيها يمتاز بتنشيط تجاوزها وإقامة بديل عنها. لاشك في وجود من يشاطرنا استبهام العولمة، وأن الكثير مثلنا ما زال يتلمس الوسيلة التي تقرب من تصور دلالات هذا المصطلح الجديد المتشعب. ولعل اتساع مجالات استخدامه سبب في لبس معناه على المتخصصين قبل غيرهم. وفي مثل هذه الحالة غالبا ما يستنجد بالعبارة البلاغية لتشخيص المعان وتقريبها من الأذهان. وفي هذا المضمار يمكن أن نستعين بالتشبيه المركب أو التمثيل، فنتصور العولمة من خلال تشبيه عالم اليوم مع شعوبه التي تستوطن بلدانه يرقعة شطرنج في خاناته ببيادقها، وكأن أوطان الأمم والشعوب مجرد أقاليم في «وطن عالمي»،وإلى هذا الوطن الشمولي يجب أن ينتسب كل من يعيش على الأرض لكن مثل هذه العبارات البيانية لا تفيد شيئا كبيرا بالنسبة إلى من يرغب في الكشف عما في العولمة من معنى ينشط إنشاء البدائل، ويعجل بتجاوز حضارتها المادية. ولعل الندوة قد وضعت اليد على المعنى المحفز لإنشاء البدائل، حين أضافت «الإكراه» إلى «العولمة» ولا سيما إن استكملنا حلقة المفهوم بأن نضيف إليها معنى «لإرضاء» بوصفه المقابل الضروري لتحقق الإكراه، وإذاك نحصل على التقابلات الثنائية المصوغة فيما يلي: أولا: في إكراهات العولمة لطرف بعينه إرضاءات لغيره، وإلا كان عمل الإكراه اعتباطيا وفعل العقلانيين عبثا، لأنه كما قيل قديما «كل فاعل لا يعلم عواقب فعله إنه لماذا يفعله فهو غير حكيم، وكل بان شيئا للنقض لا غير فهو عابث». ثانيا: الإكراه مرتبط بالخسارة والمضرة ارتباط الإرضاء بالربح والمنفعة، وعلى قدر خسارة مكره العولمة يأتي ربح مرضاها. وكلما تضاعفت حاجة المنتفع بالعولمة ارتفعت خسارة المكره عليها وتشعبت أضراره. ثالثا: مرضى العولمة يتكون من أعضاء نادي الليبرالية الجديدة التي تشكلت بسقوط حائط برلين في 9 نونبر 1989، وزوال الاتحاد السوفياتي في 25 دجنبر 1991، إذ منذ هذا التاريخ صار العالم بقطب واحد، واستفردت أمريكا بقيادة بلدانه بحسب قوانينها . رابعا: يسود الاعتقاد في دول الجنوب الفقيرة وبين نسبة مرتفعة من مثقفي دول الشمال الغنية أن عولمة الليبرالية الجديدة غير إنسانية في تطبيقاتها الاقتصادية والتجارية، وهي أيضا في جانبها السياسي والثقافي جائرة متسلطة. خامسا: كلما ازداد وعي الأمم بكراهية العيش في عولمة تجرد الفرد من مقوماته الإنسانية؛ حين سلبته ثرواته المادية، وحجرت عليه ثقافته، وحرمته قيمه الاجتماعية، وضيقت عليه في عقيدته الدينية وشرعت في استعباده، إلا وتقاسم مثقفو تلك الأمم هموم البحث، ضمن الأشكال الحضارية الممكنة، عن صيغة جديدة لحضارة خالية من مثالب العولمة المعيشة. ويهمنا مما أوردناه قبل قليل أن نكشف الآن عما في العولمة من إكراه ثقافي، وبالتحديد في علم اللسان، ثم نبين كيف تحول حجر اللسانيات الأمريكية على فرع اللغويات من الثقافة الإسلامية إلى سبب نشط إقامة النموذج اللساني البديل. الإكراه الثقافي للعولمة يصدق الإكراه الثقافي على ما يوضع من آليات لصرف الباحث عن مدارسة المادة الثقافية التي خلفها السلف في مجال تخصصه، وتوجيهه إلى تعلم مثلما ضمن ما أنتجته الحضارة المعاصرة. وبنقل هذا المعنى الذي ذكرناه إلى حقل اللسانيات خاصة تكون آليات الإكراه اللساني على ضربين: يتمثل أولهما في إتقان الغربيين لصنعة الصياغة العلمية لأعمالهم اللسانية، فاجتمع فيها من الخصائص البنيوية والوصايا النظرية ما يغري بالإذعان لها وتقليد أصحابها، من تلك الخصائص والوصايا نذكر ما يلي: 1 إحكام البناء المنطقي للنماذج النحوية المعاصرة حتى إذا قورنت، من هذه الجهة، بلغويات العربية نشأت بينهما هوة معرفية واسعة، وارتفعت حظوظ إهمال المحي وتقليد الجديد العصري. 2 تأطير النماذج النحوية بنظريات لسانية يستدل من خلالها على كلية مبادئ النحو وقواعده، وعلى صلاحيته لوصف جميع اللغات البشرية، وإن كانت قواعد النحو الكلي مستنبطة من لغة خاصة كالأنجليزية. ولإتقان عملية الاستدلال قد لا يظهر الخلل في مثل هذه العبارة ونحوها الكثير: «ما ثبتت صحته في اللغة الأنجليزية يتوقع أن يكون كليا يستغرق جميع اللغات البشرية» 3 تصنيف اللغات البشرية باعتبار علاقتها بتقويم النظرية اللسانية إلى صنفين، لغات مركزية فاعلة كالأنجليزية تؤثر في النظرية اللسانية بسبب جوهريتها واكتمال نضجها، ولغات هامشية منفعلة كالعربية ونحوها الكثير تتأثر بالنظرية ولا يؤخذ بها في تقويم النظرية والحكم عليها. 4 إذا تعارضت توقعات النظرية اللسانية مع معطيات اللغات المنفعلة وجب تغيير المعطيات وتكييفها والمحافظة على النظرية وتحصينها من النقض. وعليه ليس للمستعين بنظرية غيره في وصف لغته الخاصة أن يغير شيئا في البناء المنطقي للنظرية، لكن له أن يغير في البناء النسقي للغته حتى يعود التوافق بينهما. 5 يمكن توسيع النظرية اللسانية المستنبطة من نحو اللغة الأنجليزية حتى تنطبق قواعدها على سائر اللغات البشرية، ولا يجوز العكس، إذ لا تنطبق على الانجليزية قواعد النظرية الموسعة المستنبطة من لغات أخرى. فمع إقرار صاحب النحو الكلي بكون اللغات البشرية منقسمة إلى لغات شجرية؛ كالانجليزية والفرنسية ولغات غير شجرية كالعربية واليابانية فإنه لا يكف عن تصريحه المتكرر باستحالة تطبيق قواعد النمط الثاني من اللغات على لغات النمط الأول، وبإمكان توسيع الإطار للغات الشجرية ليتناول اللغات غير الشجرية . 6 إذا تعارض وصف النحاة القدماء للغاتهم، كوصف سيبويه للعربية مثلا، مع وصف النظرية اللسانية المعاصرة لنفس اللغة وجب تغليب الوصف الأخير؛ لأنه يستجيب للشروط العلمية والصياغة الرياضية، ونعت صاحب الوصف القديم بالغفلة وقصور النظر. إن النماذج الستة المسرودة أعلاه كافية لتوضيح القسم الأول من آليات الإكراه اللساني. إلا أن محتوى هذا الفرع لا يكون له المفعول المطلوب بغير وجود طائفة من «التقليديين الحداثيين» هذا المصطلح استعرنا من الدكتور طه عبد الرحمان كما وظفه في أعماله الأخيرة . وبدعاوى هؤلاء يكتمل جهاز صرف الباحث عن الاشتغال بثقافة السلف في مجال تخصصه، وشغله بالتقليد المطلق لأفكار المعاصرين. ولأهمية هذا المكون في آلية الإكراه الثقافي سنفرده بالمبحث الموالي. الانتصار المحلي لثقافة العولمة قد لا نخرج بنتيجة دالة من البحث في أسباب انتصار اللسانيين المحليين للنماذج النحوية الغربية. والأهم منه أن نكشف أولا عن مظاهره ثم نبرهن ثانيا على نبوه. وقبل ذلك لابد من التنبيه إلى ضرورة التفريق بين الانتصار للثقافة الغربية المصحوب بالدعوة إلى التخلي المطلق عن الإرث الثقافي، وبين ضرورة الاطلاع على ثقافة كل الأمم واستيعابها لا لتريجها محليا كما هي بدون فحص ولا تهذيب، وإنما يجب إتقان معرفتها من أجل صهر الموافق منها في الثقافة المحلية، فيتأتى الانعتاق من دائرة التقليد، ويحصل التطور الذاتي والإسهام بنصيب في ثقافات العصر. يكون التقليدي الحداثي منتصرا لثقافة العولمة إذا جمع بين إكبار هذه الثقافة في مجال تخصصه لإرضاء أصحابها، وبين استصغار ثقافة السلف في نفس المجال وإكراه الخلف على الانسلاخ منها. ويكون في سلوكه هذا صادرا عن قناعة مفادها أن ثقافة العولمة تجب الثقافة المحلية، وأن ما ترك الآخر يغني عما قاله الأول، فضع نفسه على طرفي نقيض من «التقليدي التراثي» المقتنع أيضا بأن الأول ما ترك للآخر شيئا يقوله، والمستصوب لمقولة «ليس في الإمكان أبدع مما كان»، كلا التقليدين الحداثي والتراثي عائق بدرجة معينة، يحد من نمو الثقافة الإسلامية ويمنع تطورها . ولا بأس من الاستشهاد ببعض أقوال التقليدي الحداثي التي تكشف عن قناعته الموصوفة وتوضح معنى الجمع بين استكبار ثقافة الغرب والترغيب فيها، وبين استصغار الثقافة الإسلامية والتنفير منها. وفي هذا المضمار يكثر ترديد مثل الدعاوى التالية بصيغ مختلفة. 1 لا داعي لإقامة بديل عن النحو الغربي، وبعبارة مرضية لصاحب العولمة يقول تقليدي حداثي «فالنماذج الغربية أثبتت كفايتها الوصفية، وليس هنا ما يمكن أن يشكك فيها بهذه السطحية، ولا أحد يستطيع بشيد من الجدية، اللهم إذا كان الأمر يتعلق بشعوذة، أن يدعي أننا نحتاج إلى نموذج آخر ينبني على اللغة العربية لوصفها». 2 لا مبرر لتوظيف التراث وفكر الماضي، أو كما قيل: «خلافا لما يعتقد ليس هناك ضرورة منطقية أو منهجية تفرض عينا توظيف هذا التراث.. ولا ضرورة منهجية أو منطقية تفرض الرجوع إلى فكر الماضي وتصنيفاته ومفاهيمه لمعالجة مادة معينة». 3 النحو العربي عائق، أهو عائق لإطلاق النهضة أو مناع من انتشار النماذج الغربية بين اللسانيين المحليين، وربما هو عائق بالمعنى الأخير، كما يظهر من قولهم: «إن التراث عائق في كثير من الأحيان لهاته النهضة في المجال اللغوي والمجال اللساني وأنا أتحدث عن تجربة، كانت الدعوة إلى التراث في كثير من الأحيان ومازالت عائقا للتطور وللتصور ولحل مشاكل اللغة العربية». 4 العربية لغة شاذة، إذا استعصى وصفها على النحو الغربي تجاهلها، ووجب قلبها إلى قواعده بالإقدام والتعجرف، وبتعبيرهم «هب أن في العربية إسقاطا إجباريا للضمير كما يفهم من كلام سيبويه. معنى هذا أن هذه اللغة تنفرد وحدها بهذه الخاصية، وأن لا مثيل لها بين اللغات الطبيعية، فهي لغة شاذة في هذا الباب، ولا يمكن أن تعيرها النظرية اللسانية كبير اهتمام، باعتبار أن تقويم النظريات والحكم عليها يقتضي التفريق بين ما هو جوهري أو نووي وبين ما هو هامشي» 5 اللغة العربية خليط معقد سبب فشل أصحابها وهي بعبارة أحد المنتصرين لثقافة العولمة: «لغة معقدة وصعبة، وأبرز مظاهر تعقيد اللغة العربية يتمثل في طابعها غير المحدد والمعقد. يجب إذن الوعي بأن اللغة العربية حقيقة غامضة ومجردة. وهي في الواقع لغة غامضة صعبة التحديد. وسبب الارتباكات البيداغوجية وإخفاقات التعلم في نظامنا التعليمي وسبب رئيسي لعدم المساواة الاجتماعية» 6 المنتصر للغة القرآن مصاب بالعمى اللغوي، فالتمسك بلغة القرآن يدل في تقدير التقليدي الحداثي على الإصابة «بالعمى اللغوي والثقافي»، والمحافظة عليها تبنئ عن طيش وانتفاء الروية، لأن «موقف العرب من لغتهم موقف إديولوجي أو هو موقف يسير عموما في اتجاه الأرثذوكسية» إن هم تمسكوا بالعربية بصفتها «لغة القرآن والتراث الديني» يظهر أن جميع العناصر التي تشكل ماهية الثقافة الإسلامية لا ترضى أحدا من ذوي ثقافة العولمة، كانوا أصولا أو أتباعا. تبين أن مثل هذه الدعاوى وغيرها الكثير تكون مجتمعة جهازا يجمع بين إرضاء منتدى العولمة بالترغيب في ثقافة أعضائه والإكراه الفكري لأمة القرآن على انسلاخ أبنائها من ثقافتهم الإسلامية. وظهر أيضا كيف يستميت التقليدي الحداثي في الدفاع عن النظريات الغربية وكأنها من وضعه وإحدى بنات أفكاره، يجتهد، بوحي من أساتذه الغربيين ، لطمس إرثا حضاريا ساد في الماضي قرونا، وأضاء شعوبا تسود حاليا. الدكتور محمد الأوراغي - أستاذ جامعي بكلية الآداب والعلوم الإنسانية جامعة محمد الخامس أكدال الرباط-