إن العلاقة بين (القانونية البيولوجية الاجتماعية ) و(بين قانونية الروح) حاضرة فيما يعرضه القرآن من حقائق تتعلق بالتركيب الإنساني أو فيما يعرضه من نماذج بشرية وقصص تاريخي يقدمه القرآن من أجل الذكرى والاعتبار. فالقرآن الكريم مثلا يقر أن النزوع إلى الشهوات: شهوة المال، وشهوة البنين ، وشهوة النساء نزوع فطري أصيل في الإنسان يقول الله تعالى: (زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث، ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب).12 غير أنه لا يجعل لها سيطرة مطلقة على السلوك، ولا يعلي من شأن قانونية الجسد بالرغم من الاعتراف بها ، لأن الإنسان يملك أن يتسامى ويؤثر ما عند الله : (قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من الله، والله بصير بالعباد).13 وهذا التسامي لا يعني إلغاء لتلك الشهوات وإنما أخذا منها بالنصيب المشروع حتى يخرج السلوك الشهوي الإنساني من أن يكون محكوما فقط بقانونية الجسد كي يصبح محكوما بقانون الشرع. والانتقال من القانونية الأولى إلى القانونية الثانية يكسب الممارسة المادية الجسدية صبغة روحية، أي تتحول إلى عبادة، كما ثبت في الحديث الصحيح: وفي بضع أحدكم صدقة قالوا : يا رسول الله : أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال : أرأيتم لو وضعها في حرام، أكان عليه فيها وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر 14 . ويعبر القرآن الكريم عن خضوع الإنسان لقانونية الجسد بمصطلح الضعف، وذلك في قوله تعالى: (وأن تصبروا خير لكم والله غفور رحيم، يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم والله عليم حكيم والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما، يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا).15 يقول سيد قطب رحمه الله تعالى: إن الله عز وجل لا يريد أن يعنت عباده ولا أن يشق عليهم، ولا أن يوقعهم في الفتنة، وإن كان دينه الذي اختار لهم يريد منهم الاستعلاء والارتفاع والتسامي، فهو يريد منهم هذا كله في حدود فطرتهم الإنسانية وفي حدود طاقتهم الكامنة، وفي حدود حاجاتهم الحقيقية كذلك. فهو منهج ميسر يلحظ الفطرة،ويعرف الحاجة، ويقدر الضرورة . كل ما هنالك أنه لا يهتف للهابطين بالهبوط ولا يقف أمامهم وهم غارقون في الوحل يبارك هبوطهم ،ويمجد سقوطهم أو يعفيهم من الجهد في محاولة التسامي أومن التبعة في قلة مقاومة الإغراء إن الإسلام إذن يعترف بالضعف البشري وبتأثير قانون الجسد في الإنسان فيما يشرعه له من منهج وأحكام مراعاة لهذا الضعف ونفي للحرج والمشقة والضرر، لكنه في نفس الوقت يدعو الإنسان إلى التسامي، ويستثير فيه قواه الروحية ليحدث التوازن في مقام أول،بحيث يكون إرواء مطالب الجسد في الحدود المشروعة وليحدث التسامي في مقام ثاني إذا لم تتوفر فرص إرواء تلك المطالب (وأن تصبروا خير لكم والله غفور رحيم) والتخفيف الذي يقصده القرآن تبعا لذلك لا يعني انهيارا أمام مطالب الجسد على الرغم من اعتراف الإسلام بذلك بل هو تخفيف في إطار الممارسة الشرعية. وفي حالة تعذر تحقيق هذه الممارسة وعدم قيام شروطها، فإن المؤمن مطالب بالاستعفاف أي بالاستعانة على قانون الجسد بقانون الروح. (وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله) (17 ) . وفي موقع آخر من القرآن الكريم نجد هذه العلاقة العكسية بين قانون الروح وقانون الجسد حاضرة . إن القرآن الكريم يقرر وجوب القتال في سبيل الله على الرغم من أنه يقرر أنه أمر تكرهه النفس، ولكنه يستحث المؤمنين للقتال في سبيل الله بسبب أن الخير الذي وراءه يرجح بكثير على الشر الذي يمكن أن يلقاه المؤمنون من جراء الانخراط في القتال: (كتب عليكم القتال وهو كره لكم، وعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا) (18) . فالمؤمن بحكم خضوعه، كسائر البشر، لقانون الجسد يتألم مثل غيره، ولكن ما يميزه أنه يخضع أيضا لقانون الروح، الذي يجعل رجاءه من الله يرجح على كل اعتبار، (ولا تهنوا في ابتغاء القوم، إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون وكان الله عليما حكيما) (19) . فالاعتبار الروحي هو الذي يرجح الكفة، ويمكن المؤمنين من التحرر من قانون الجسد، بينما يبقى غيرهم ممن انقطعت صلتهم بالله أسارى لسائر أنواع الحتميات الأرضية. معادلة رياضية بين قانون الروح وقانون الجسد وتقرر سورة الأنفال العلاقة العكسية بين قانون الجسد وقانون الروح على شكل معادلة رياضية، فالمؤمنون في المعركة تتضاعف قوتهم بمعامل الإيمان الذي معهم، إذ بإمكانهم أن يكونوا أكفاء لأعدائهم في المعركة، بل يمكن أن ترجح كفتهم بالقدر الذي يتضاعف فيه المعامل الإيماني، وإن كان الأعداء أكثر منهم عددا وعدة. يقول الله تعالى: (يا أيها النبيء حسبك الله ومن اتبعك من المومنين، يا أيها النبيء حرض المومنين على القتال، إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين، وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون، الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا، فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين، وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله، والله مع الصابرين) (20) وهذه الآية تشير إلى ما يسميه ابن خلدون بالاستبصار الديني ودوره في قيام الدولة وسقوطها وهو ما سيأتي بيانه في ما بعد. فدرجة الفاعلية يمكن أن تتضاعف إلى عشرة أضعاف وهي تشير أيضا إلى أن عدم استثمار الوسع والطاقة الإنسانية الممكنة، وأنها يمكن أن تتضاءل وتصغر عشر مرات عما هو في مقدورها ووسعها. أما علة ذلك كما يذكر القرآن فهو غياب الفقه، الفقه هنا بالمعنى العام . يذكر الطبري في تفسير قوله تعالى (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) :يقول تعالى ذِكْره : هَذِهِ الرَّهْبَة الَّتِي لَكُمْ فِي صُدُور هَؤُلاءِ الْيَهُود الَّتِي هِيَ أَشَدّ مِنْ رَهْبَتهمْ مِنْ اللَّه مِنْ أَجْل أَنَّهُمْ قَوْم لا يَفْقَهُونَ، قَدْر عَظَمَة اللَّه، فَهُمْ لِذَلِكَ يَسْتَخِفُّونَ بِمَعَاصِيهِ، وَلا يَرْهَبُونَ عِقَابه قَدْر رَهْبَتهمْ مِنْكُمْ .(أي أنهم لا يفقهون تدافعكم للشهادة وبذل المهج طلبًا للجنة، وهم إنما يقاتلون ليسمع بهم الناس استعلاء وكبرًا وخيلاء، ثم خفف الله عن عباده وقد علم ما بهم من الضعف.؟ فالفاعلية في درجاتها القصوى أي التي تصل إلى حدود مضاعفة الجهد والبذل عشر مرات عما يطيقه الإنسان العادي أمر لا يتحقق للأمة في جميع مراحل وجودها وتطورها، كما أنه أمر لا يتحقق لجميع أفراد الأمة نظرا لاختلاف الاستعدادات والمستويات والإرادات ، والناس كإبل مائة لا تكاد تجد فيهم راحلة كما ورد في الحديث، جاء عن سالم عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تجدون الناس كإبل مائة ليس فيها راحلة (21 ). أما منشأ هذه الفاعلية فمرتبط بالعلاقة بين أثر الروح وقانونها وأثر الجسد وقانونها، وهي علاقة عكسية، إذ كلما اشتد تأثير قانون الروح كلما استطاع الإنسان أن يتحرر من قانون الجسد وملابساته وإكراهاته، وكلما اشتد تأثير قانون الجسد إلا وضعفت الروح ومن ثم الفاعلية الإنسانية باعتبارها انتصارا على الأوهاق والآصار التي تربط الإنسان بالأرض. لذلك كان من منهج الإسلام التربوي تحريض المؤمنين على النهوض، واستنهاض همهم واستنفارهم باستمرار وربطهم بالمثل الأعلى، كما في قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكن انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض، أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل، انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون) 22 . 12)سورة آل عمران آية 14 13) سورة آل عمران آية 15 14) أخرجه مسلم 15) سورة النساء آيات 2825 16) سيد قطب: في ظلال القرآن المجلد الثاني ص:036 دار الشروق. 17) سورة النور آية 33 18) البقرة آية 54 19) النساء آية 104 20) الأنفال 64/65 21) متفق عليه 22) التوبة 38/39