في بيانه للقصد من وضع كتابه +بداية المجتهد؛ يقول الفيلسوف والفقيه المالكي ابن رشد: +إن هذا الكتاب إنما وضعناه ليبلغ به المجتهد في هذه الصناعة رتبة الاجتهاد، وبهذه الرتبة يسمى فقيها لا يحفظ مسائل الفقه ولو بلغت في الصدر أقصى ما يمكن أن يحفظه إنسان، كما نجد متفقهة زماننا يظنون أن الأفقه هو الذي حفظ مسائل أكثر، وهؤلاء عرض لهم شبيه ما يعرض لمن ظن أن الخَفَّاف هو الذي عنده خفاف كثيرة، لا الذي يقدر على عملها. وهو بَيِّن أن الذي عنده خفاف كثيرة سيأتيه إنسان بقدم لا يجد في خفافه ما يصلح لقدمه، فيلجأ إلى صانع الخفاف ضرورة. فهذا هو مثال أكثر المتفقهة في هذا الوقت؛. إن التشبيه الذي أتى به ابن رشد اعتمادا على مثال الخفاف دال جدا على وضعية الفقه المعتمد على التكرار والحفظ. فليس الخفاف هو الذي يملك خفافا كثيرة، بل هو الذي يقدر على صناعتها؛ لأنه مهما كانت أعداد الخفاف التي يملكها في محله، فإنه لا بد أن يصطدم يوما بحالة قدم ليس لديه مقاسها، فيضطر إلى البحث عمن يقدر على صناعة الخف المناسب لها. وكذلك الفقيه إزاء مستجدات الحياة وحراكها، ليس يكفيه مخزونه من الحفظ، بل لا بد له من مهارات عقلية ليقارب الحياة ويتمكن من فهمها وإرشادها. فالمطلوب من العملية الفقهية أن تكون قادرة على استيعاب المستجد. وأخطر ما يمكن أن يصيب الفكر الإسلامي هو أن تستقر فيه تلك النزعة التي تحسب أن أفضل الفقهاء هو ذاك الذي لا يقول بشيء لم يقل به إمام أو فقيه قديم. إن البداية الحقيقية للتفكير الاجتهادي هي في إدراك خصوصية واقعه ومستجداته، واحتياجه إلى تفكير فقهي جديد. فالفقه برسم تعريفه كعلم بالأحكام الشرعية العملية الفرعية، وبرسم أنماطه الحكمية التكليفية كالوجوب والندب والإباحة والكراهة والحرمة أو الوضعية كالصحة والبطلان والفساد، هو أكثر مجالات المعرفة الإسلامية صلة بالحياة، لأنه متعلق بالسلوك العملي؛ لذا من المفروض أن يكون مفتوحا على التغيير والتبديل. وإلا فلن يكون فقه حياة بل فقه ممات! وعود إلى ابن رشد، فإذا كان في كتابه +بداية المجتهد؛ قد انتقد حالة الفقه في زمانه، فإنه في كتابه +الضروري في أصول الفقه؛ نجده يكرر ذات النقد، فالأمر يكشف عن عمق إحساسه بخطر المشكلة التي صارت هاجسا لديه. حيث يقول: +والفرق بين هؤلاء وبين العوام أنهم يحفظون الآراء التي للمجتهدين من غير أن تكون عندهم شروط الاجتهاد؛. إنه يقارب بين متفقهة زمانه وبين العوام، فلا يجد من اختلاف إلا في الحفظ. فيؤكد أنهم مجرد عوام يلبسون ثوب المجتهدين مما يؤدي إلى التباس حقيقة أمرهم على الناس، فتراهم يتبعونهم ظانين أنهم أهل للاقتداء والاحتذاء واستعلام موقف الدين من أفواههم. بينما كل الاختلاف -حسب ابن رشد- هو في حفظهم لآراء وفتاوى الأئمة، أي أن ما يميزهم هو الذاكرة الحافظة لا غير. لكن ألا تجد أن حديث ابن رشد عن فقهاء زمانه يصدق أيضا على كثير من فقهاء زماننا نحن؟! إن حالة الفقه اليوم -بفعل ما نشهده من فوضى في الفتوى واجتراء عليها وتنطع الفكر المتطرف- هي ظواهر تحتاج إلى وقفات نقدية صارمة للتنبيه إليها والمناداة بمعالجة أسسها. فليس الخطر في فكر هؤلاء هو تكرارهم لمواقف وآراء الأئمة المجتهدين، بل الخطر في تجاوزهم لموقف الترديد والتكرار إلى موقف +الاجتهاد؛ دون اقتدار عليه، فينزلون هذه المواقف والآراء على غير منازلها. بل تجدهم ينزعون نحو أحكام التبديع والتفسيق والتكفير وكأن وظيفة الداعية ليست إصلاح النفوس وإرشاد العقول، بل تنفيرها وحفر خنادق بينها وبين الدين.