هذا موضوع له مساره وله طبيعته، لكن الذي جرى في وسائل إعلامنا سجال آخر، مع الأسف الشديد أنه انطلق من ملاحظات لقارئ لهذه الفتاوى، تبين أنه يقرأها بنوع من الانتقائية والتحامل ويحكم عليها بمنطق يعتبره هو المنطق، وبرأيه يعتبره هو الرأي، وبمرجعية يعتبرها هي المرجعية الأسمى، ويحاكم إليها فتاوى مؤسسة على مرجعية أخرى هي المرجعية الإسلامية. إذن علينا أن نميز هل هو نقاش في موضوع الفتوى، وهل هو سعي لضبط الفتوى، وهل هو حرص على الفتوى..، الذي جرى في وسائل إعلامنا ليس فيه شيء من هذا، وخاصة تلك التي تدعم الأستاذ الساسي، ووجد له أنصار، وطبعا وجد من رد عليه، اتجه وجهة واحدة، هي نوع من الاتجاه إلى التضييق على أهل الفتوى لكي لا يبقى إلا الرأي الآخر، الذي كم يتمنى أن يأتي اليوم الذي لا يبقى فيه لهذه المرجعية الإسلامية مساحة في حياة الناس. أنا أقول، هناك فتاوى أخرى تصدر ولا يتحدث عنها أحد، أنا أقول بأن الذين يروجون، يعني مثلا الذين سعوا إلى الإفطار في نهار رمضان جهارا، انطلقوا من فتوى ولو لم يسموها فتوى، ولكن يقولون حرية شخصية، وإنهم أحرار يفعلون ما شاؤوا، لم يتعقبهم أحد إلا القلة القليلة. الشواذ أيضا ينطلقون من فتوى، لكنهم لا يسمونها فتوى، وأنصارهم يحرصون على تسميتها حرية فردية وحرية شخصية. النقد اتجه إلى الفتاوى التي تنشرها جريدة التجديد أساسا، وهي الفتاوى التي تزعج كل خصوم المرجعية الإسلامية في بلادنا، ويتمنون أن يأتي اليوم الذي إما أن لا تعود فيه هذه الجريدة إلى الصدور أصلا، أو على الأقل أن تبتعد عن موضوع الفتوى. مع أن الجريدة إنما تقوم بخدمة تستجيب فيها لحاجة الناس، الناس يسألون وهي تبحث عمن يجيب من العلماء، وقد تأخذ تلك الأجوبة من موقع وزارة الأوقاف أو تأخذه من علماء بشكل مباشر. النقاش أصلا غير علمي، ولذلك ندعو إلى أن يظل الموضوع كما كان بين أهله وبين المختصين، صحيح من حق العلماء الباحثين في العلوم الإنسانية بشكل عام أن يبدو رأيهم لكن مع احترام التخصص، فلا يمكن أن أجعل الفقيه وصيا على العلوم الإنسانية، ولا يمكن أن أجعل العلوم الإنسانية وصية على الفقهاء وعلى الباحثين في العلوم الشرعية، لأنه حينها تتداخل الاختصاصات ولا يستقيم أمر شيء في بلادنا. الحريصون على الفتوى عليهم أن يهيئوا الشروط العلمية، التي تجعل هذه الفتاوى مؤسسة على دليل علمي سليم وعلى رؤية شرعية سليمة واضحة، ولم نسمع دعوة إلى هذا الاتجاه، لم نسمع مثلا الدعوة إلى دعم العلوم الشرعية في مؤسساتنا وفي جامعاتنا، لم نسمع من هؤلاء الذين يحرصون على الفتوى ضرورة تأهيل المفتين، وتوفير كل الشروط والضمانات التي تجعلهم يصدرون فتاواهم بعلمية وحياد وموضوعية، وبعيدا عن أي ضغط أو تخويف أو إرهاب. على الذين يريدون أن تكون الفتاوى التي تصدر ببلادنا فتاوى سليمة أن يعلموا أن لها مداخلها وعلى رأسها التأهيل العلمي، لأن هذه الفتاوى لا يمكن أن تترتب عنها مضايقات أو متابعات أو غير ذلك، من أجل ممارسة للدور المطلوب من العلماء. مع الأسف الشديد النقاش لم يمض في هذا الاتجاه، إذ تصدر الفتوى بناء على حديث نبوي أو بناء على آية قرآنية، ويأتي من ينتقدها بناء على قرار لهيئة ما أو ميثاق لهيئة ما، إذن فعند بعضهم المرجعية العليا هي المواثيق الدولية، ونحن نقول في الصباح والمساء وسنظل نقول بأن المرجعية العليا في البلاد الإسلامية هي المرجعية الإسلامية، وليس في هذا عداء أو عداوة للمواثيق والقرارات، بل نقبل منها ما وافق مرجعيتنا، ونتحفظ كما تحفظت بلادنا، وما زالت لها تحفظات هي الأخرى هناك من يسعى إلى رفعها، أو من يروج أنها رفعت في إطار السعي دائما إلى مزيد من تضييق مساحة صدور الشريعة الإسلامية في حياة الناس، ومزيد من حضورها في توجيه واقع هذا البلد ومستقبله. إذن أقول باختصار، لو كان النقاش علميا فهو مرحب به في كل وقت وحين، ولو احترمت فيه الضوابط العلمية، لكن الذي جرى في موضوع الفتوى في بلادنا هو نقاش إيديولوجي سياسي بامتياز، وجهته هيئة سياسية، كالت لمن خالفها كل أسباب القذف والتهجم في بيان سياسي صدر عنها، انتصرت فيه لأحد أقطابها ورموزها، لم نجد انتقادا لهذه الفتاوى من علماء متخصصين ولا من جهات أخرى، جهة وحيدة تحاملت وتريد أن تجعل المجتمع يمضي معها في هذا الاتجاه، وهذا ما لم يكون، لأن هذه البلاد لها ثوابتها، وحين نقول ثوابتها فهي ثابتة فعلا، لا يمكن أن يزعزعها اعتراض معترض أو انتقاد منتقد، ونحن مع ترشيد الفتوى، ومع تأهيل المفتين، ومع إضفاء مزيد من العلمية على هذه الفتاوى، وكل ذلك كان ما كان منه وينبغي أن يستمر.