من البدهيات التي لا يختلف حولها اثنان أن الدعوة إلى الله واجبة تجاه الناس عامة، لا تتوجه لقوم دون قوم، أو جنس دون جنس، أو طائفة دون طائفة. فالقرآن قد نزل للعالمين، وخاطب الكل دون استثناء، وكان الرسول عليه الصلاة والسلام يبلغه في شتى البلاد إلى كل خلق من خلائق الله، وهو الذي قال فيه ربه عز وجل: (ما أرسلناك إلا رحمة للعالمين). وعمومية الشريعة وعالميتها أمر معروف عند الخاص والعام، لا ينكر ذلك إلا جاهل بالشرع وبخصوصيات هذه الشريعة السمحة، يقول أبو إسحاق الشاطبي رحمه الله: "الشريعة بحسب المكلفين كلية عامة بمعنى أنه لا يختص بالخطاب بحكم من أحكامها الطلبية بعض دون بعض، ولا يحاشي من الدخول تحت أحكامها مكلف البتة، والدليل على ذلك مع أنه واضح أمور: أحدهما النصوص المتظافرة كقوله تعالى: (وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا) وقوله: (قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا) وقوله عليه الصلاة والسلام "بعثت إلى الأحمر والأسود" وأشباه هذه النصوص مما يدل على أن البعثة عامة لا خاصة، ولو ان بعض الناس مختصا بما لم يخص به غيره لم يكن مرسلا للناس جميعا" والموافقات: 169 .170 من هذا المنطلق نقول إن الدعوة إلى الله في القرى وفي أوساط البدو أو الأعراب تدخل في هذا الإطار العام، إذ ليس أهل الحضر أولى وأجدر بالدعوة والهداية، وليسوا أولى من البدو بهذا الخير وبالنجاة يوم القيامة وبالجنة؟! فهم جميعا سواسية، لا فرق البتة بينهم في ميزان الدعوة والأحقية بالخير في الدنيا والآخرة... والبدو أو الأعراب: جمع بدوي وأعرابي، والأعرابي كما يقول ابن قتيبة لزيم البادية، والعربي منسوب إلى العرب وكأنه يشير إلى أن هذه النسبة قد تكون نسبة جنس كالأعرابي وقد تكون نسبة لسان وإن كان من الأعاجم إذا تعلمها (انظر أحكام القرآن لابن العربي، ص 567). أما ابن خلدون فقد بين ما بين البدو والحضر من اختلافات فقال: "وقد ذكرنا أن البدو هم المقتصرون على الضروري في أحوالهم، العاجزون عما فوقه وأن الحضر المعتنون بحاجات الترف والكمال في أحوالهم وعوائدهم" المقدمة/ص .134 وإن مما يشيع بين كثير من المسلمين اليوم وقبل اليوم هو أن البدو والأعراب هم قوم مفطورون على الشر، مجبولون عن الإعراض عن سبيل الله، وهو رأي يعتمدون فيه على نصوص قرآنية منها قوله تعالى: (الأعراب أشد كفرا ونفاقا) التوبة: ,97 وقوله تعالى: (وممن حولكم من الاعراب منافقون) التوبة: ,101 وقوله تعالى: (قالت الأعراب أمنا قل لم تومنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم) الحجرات: ,14 وقوله تعالى: (قل للمخلفين من الأعراب ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون) الفتح: 16 إلى غير ذلك من النصوص. وإن عمل هؤلاء ومذهبهم كمن قرأ (ويل للمصلين) أو (والشعراء يتبعهم الغاوون) ثم سكت وخرج بأحكام مغلوطة، ذلك أن في القرآن آيات كثيرة غير هذه التي تذكر المثالب والمعايب، فيها تبيان لخصال الأعراب الجميلة ومكارمهم من ذلك قوله تعالى: (ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله) التوبة: ,120 وقوله تعالى: (ومن الأعراب من يومن بالله وباليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول ألا إنها قربة لهم سيدخلهم الله في رحمته إن الله غفور رحيم): التوبة: .99 وإن ما ينتشر ويشيع في القرى وأهلها من منكرات الشرك والتعلق بالأموات والأحجار والجمادات، وإن ما يشيع فيها من جهل وبعد عن الدين وشعائره وشرائعه، فإنما ذلك راجع لما طال القرى من تهميش وإهمال من حيث البنيات التحتية وضرورات الحياة وكذا من حيث الحركة الدعوية والتوعية الدينية، فاجتمع عليها بسبب ذلك فساد الدنيا والدين، وإلا فأهل القرى أو البدو هم أكثر استعدادا للخير وقبوله من أهل الحضر. ولقد جعل ابن خلدون الفصل الرابع من مقدمته تحت عنوان: "في أن أهل البدو أقرب إلى الخير من أهل الحضر" وقال فيه: "... وما يحصل فيهم من مذاهب السوء ومذمومات الخلق بالنسبة إلى أهل الحضر أقل بكثير، فهم أقرب إلى الفطرة الأولى وأبعد عما ينطبع في النفس من سوء الملكات بكثرة العوائد المذمومة وقبحها، فيسهل علاجهم عن علاج الحضر، وقد يتوضح فيما بعد أن الحضارة في نهاية العمران وخروجه إلى الفساد" المقدمة (ص: 135). هكذا يظهر أن أهل القرى ليسوا شرا محضا كما يحلو للبعض أن يصفهم، ولا هم أسوأ حال من الحضر، ولا على قلوبهم أقفالها، فتلك اتهامات يلصقها بهم من لا يعرفهم أو من يريد اتخاذ ذلك ذريعة لإقصائهم والتفريط في جنبهم، وغمطهم حقهم فيما يخص الدعوة والإرشاد إلى الخير وسبيل الرشد. والخلاصة أن إعادة الاعتبار للدعوة في أوساط القرى والبوادي واجب من واجبات الدعاة والعلماء وشباب الصحوة ورجال التعليم العاملين في هذا المجال والذين لو تجندوا وتعهدوا أهل القرى بالموعظة والتعليم والتنوير للاقوا من هؤلاء الاستجابة، ولأنقذوهم من ضنك العيش ومن سهام الفساد والتفسيق التي باتت ترميهم من كل جانب. المصطفى الناصري