تستعد مدينة فاس المغربية لاستقبال صحافيين يمثلون بلدانا عدَّة من مختلف القارات وبالتالي الانتماءات الحضارية والثقافية والدينية لمناقشة سؤال حوار الحضارات ودور وسائل الإعلام في هذا المسلسل. هذه التظاهرة تطرح بالفعل مفارقة جديرة بالتأمل. الإِخبار والتواصل يعتبران المبدأ الأصيل للعملية الإعلامية والمبرر الأوليّ لوجودها. فهي الوسيط الذي يملك أكثر الأدوات التقنية فعالية في توصيل الرسائل وأحسن الكفاءات البشرية احترافية لربط الجسور بين البشر. غير أن هذا الدور المفترض ما كان له أن يتحقق وقد انفتح القطاع الإعلامي منذ البداية على فاعلين باستراتيجيات متضاربة ونوايا هيمنية مضمرة أحياناً ومعلنة أخرى، وجذبت قوته النفاثة في اختراق البنى الذهنية والاجتماعية والسياسية مستثمرين من كل التيارات والأوساط، لتتحول الأرض إلى شبكة من الجبهات المتصارعة بالمعلومة والخبر والتعليق والتحليل. انحرفت المهام الأصلية للفعل الإعلامي إذن من مجرد نقل الوقائع والأحداث إلى توضيبها وعرضها بأفق انتظار عائدات مادية ومعنوية معينة، إما من خلال تغيير أفكار وقيم ومواقف سائدة وإما استنبات أخرى بديلة في صفوف النخب والجماهير المستهدفة. إنه منطق الحرب الإعلامية المفتوحة الذي اكتسح العلاقات الحساسة بين خطوط العرض الحضارية وجغرافيات التماس الثقافية والدينية. وهي علاقات كانت قمينة بجذب اهتمام وسائل الإعلام بعد انحسار الجليد الأيديولوجي الذي حجب لزمن بعيد الاختلافات العميقة ذات المصدر الثقافي الحضاري، التي توفر للاستراتيجية الإعلامية المعطيات الخام لتصعيد الجدل واسع النطاق وصنع المادة الصدامية الجاذبة للاستهلاك الجماهيري والنخبوي. وفضلا عن ذلك، تنبه الجهاز السياسي، خصوصا على مستوى القوى الكبرى، إلى فعالية السلطة الإعلامية في التبشير بالاستراتيجيات والترويج للأولويات وتغطية التدخلات المختلفة وتبسيط الحالة الصراعية. وبرزت العلاقة بين الغرب والعالم الإسلامي في صلب هذا التطور، بل تحولت إلى قطبية مركزية ضمن بؤر التوتر المهمة في العلاقات الدولية لما بعد الحرب الباردة. وكانت أحداث 11 سبتمبر وقضية الرسوم الدنماركية المسيئة للرسول محطتين بارزتين في هذا المجال، ومع حفظ الفارق، فإن الواقعة الأولى قدمت كفعل عنف مادي صادر من كتلة حضارية مغبونة ضد المركز الحضاري المهيمن، بينما بدت الثانية للبعض ممارسة عنفية رمزية من غرب الحرية ضد المرجعية الدينية للعالم الإسلامي. كانت قضية الرسوم الدنماركية المسيئة قد كشفت عن خطورة دور وسائل الإعلام، المتعاظمة في مجتمع اتصالي يتغذى على الأخبار والإشارات والرموز. وإن كان المجتمع الدولي قد تنبه بالفعل إلى الإمكانات الواسعة التي تتيحها هذه المؤسسات في التقريب بين العناصر المختلفة سواء داخل المجتمع الوطني الواحد أو في النطاق عبر القومي، فإن المراهنة على دور توسطي إيجابي لوسائل الإعلام ذات القدرة الولوجية النافذة لدى أوسع الشرائح، يجعل منها منبراً للتبادل والحوار يثمن قيمة الاختلاف، تصطدم أحيانا بانحرافات تحيد بالفاعل الإعلامي عن هذه المهمة النبيلة ليصبح صدى للفكر الهدام الذي يعتنق أطروحة الصدام بين الفرقاء، ويتبنى منظورا ثنائيا للعالم كفضاء لمعركة مفتوحة بين الخير الغربي و الشر الإسلامي. والواقع أن بعض وسائل الإعلام المفتوحة على نظريات الصراع والمواقف الكليانية المسبقة كانت منذ البداية في قلب الواقع الجديد الذي برزت معالمه إثر انهيار المعسكر الشيوعي، وبشكل أوضح بعد أحداث 11 سبتمبر. لقد كانت قناة لتسويق نظرية الخطر الأخضر بعد الأحمر المنهار، وأطروحة صدام الحضارات لصمويل هنتنغتون، التي تتحدث عن الحدود الدموية للإسلام. أما هجمات 11 سبتمبر فقد فجرت مخازن اللاشعور الجمعي الغربي، لتصبح معها صلة الإرهاب بالإسلام علاقة بين دالّ ومدلول. وحتى من داخل المنظومة الغربية، صدرت شهادات عدَّة لمفكرين وخبراء في الإعلام يفضحون حالة الاستتباع الصارخ للآلة الإعلامية من قِبَل القرار الاستراتيجي، وضمور هوامش الموضوعية والتجرد، وخفوت أصوات العقل والحكمة مقابل اكتساح لغة التشنج والعمى الاعتباطي أو المتعمد عن المسافة القائمة بين ديانة سماوية يعتنقها مليار ونصف مليون شخص وبين وقائع تاريخية محددة، هي فضلا عن ظرفيتها والتباساتها لا تقتصر على المسلمين، كما هو الشأن بالنسبة لظاهرة الإرهاب. إن مكمن الخطورة في المعالجة الإعلامية للقضايا ذات البعد الإعلامي الجماهيري هو أنها تقحم في الفضاء التداولي المشاعر السطحية والأفكار اللاعقلانية والمواقف المسبقة، ما يضيِّق بشكل كبير على المبادرات الشخصية والمؤسساتية التي تحاول الانتصار للتعددية الثقافية وحوار الحضارات، بل يحكم عليها باللعب خارج الزمن، ويعرض روادها للتهميش والاتهام بالعمالة والتخوين. الواقع أن الواقع الإعلامي الراهن، بتبعيته الصارخة لدوائر السلطة السياسية والاقتصادية في مركز القوة العالمية، يشكل انتصارا للمأخوذين بفكرة الصراع الحضاري، بحيث تبدو المهمة صعبة في تفادي خريطة انقسامية دولية تستبدل صراع الأفكار والمصالح بصراع الأديان والثقافات.