رغم شيوع خطاب التعددية واحترام الاختلاف، من الملاحظ أن السياسية الغربية لا تقدم نمطها الثقافي ورؤيتها للحياة كأحد المنظورات والأنماط الممكنة، بل تقدم ذلك بوصفه النمط الوحيد الذي يجب أن يسود الأرض، وهو قصد يتم العمل على تجسيده بمختلف الأساليب الملزمة، وكمثال فقط على أسلوب الإلزام نشير هنا إلى أن البنك الدولي لم يعد -بل لم يكن يوما- مجرد مؤسسة للقرض، بل مؤسسة تتنطع إلى نمذجة وعي العالم بأكمله! حيث لا يقتصر على وضع شروط زمنية لأداء وسداد قروضه، بل يطالب فضلا عن ذلك بإنجاز مجموعة من التغييرات الثقافية التي تصل إلى حد المناداة بتبديل جذري في المفاهيم التعليمية والقيم الاجتماعية. وضمن هذا الحرص على إلغاء ثقافة الآخر، تندرج أيضا الرؤية البيولوجية، ففكرة الحد من النسل رغم التغليف الاقتصادي والاجتماعي الذي تقدم به تختزن في العمق هذا الحرص الغربي على عدم استيعاب وجود المغاير والمختلف. ولست هنا بصدد نقد إطلاق النسل ولا نقد الحد منه، فليس هذا هو موضوع مقالنا، إنما القصد هو الكشف عن الهدف الذي يسكن الرؤية الغربية ويوجه مشروعها السكاني ورؤيتها الاستراتيجية لكوكب الأرض، فالغرب يدرك أن الإنسان الغربي الأبيض حيوان في طور الانقراض، لذا يعمل على حفظ استمراريته بكل ما يمكن من وسائل، مع العمل على انقراض غيره بالحد من تناسله وتوالده، وهذا الموقف صادر في الأصل من عقيدة الاقتصاد السياسي الحداثي الذي قام منذ طبعته المالتوسية على بلورة فوبيا وجود الآخر، حيث قدم مالتوس في القرن التاسع عشر تنظيرا في غاية الاختزال لمشكلة الندرة، منتهيا إلى أن سببها راجع إلى أن سكان الأرض يزيدون وفق متوالية هندسية، بينما الموارد تزيد وفق متوالية حسابية. ورغم الانتقادات الكثيرة التي هزت مصداقية هذه الرؤية المالتوسية، فإنها لم تدفع الغرب على مستوى خططه السياسية واستراتيجيته الاقتصادية لأن يعيد التفكير في أنماطه الإنتاجية القائمة على اختلال وظلم التوزيع، فيعي أن أهم سبب لمشكلة الغذاء هو نهبه لشعوب الأرض وفرضه أنماطا إنتاجية وتوزيعية غير عادلة. وإذا رجعنا مثلا إلى النصوص المؤسسة للسياسة الأميركية تجاه إشكالية النسل أقصد النصوص الثلاثة التي تم رفع السرية عنها مؤخرا وإخراجها للتداول العلني -تلك التي كتبها هنري كيسنجر وبرنت سكوكرفت Brent Scowcroft بين 1974 و 1976 حيث كان النص الأول المعنون ب National Security Study Memorandum يهدف إلى تحديد أثر النمو الديموغرافي العالمي على أمن ومصالح الولاياتالمتحدة الأميركية. والثاني (National Security Decision Memorandum (NSDM) يهتم بوضع السياسات العملية لمواجهة الخطر الذي تم تشخيصه في الوثيقة الأولى. والوثيقة الثالثة (First Annual Report) كانت تشخيصا وتقويما لمدى نجاح تلك السياسات العملية -أقول بالرجوع إلى هذه النصوص الثلاثة- نلاحظ أنها كلها تقوم على النظر إلى أن تمدد وتوسع الوجود البيولوجي للشعوب الأخرى تهديد للوجود الأميركي والغربي عامة، وبالتالي يجب معاملته بوصفه خطرا أمنيا. إن الرغبة في الحد البيولوجي للشعوب الأخرى، يناغم الحد الآخر، أي الممارس على المستوى الثقافي. فإذا كان تحديد النسل تحركه إرادة داروينية لبقاء الغرب مسيطرا ومتمتعا بثروات الأرض، فإن هناك أيضا رؤية تنميطية تستهدف الحد من التنوع والاختلاف الثقافي، تصل إلى حد إلزام الشعوب بتغيير ثقافاتها وتبديل مناهجها في التفكير والاعتقاد والقيم.