النيات علمها عند الله وحده، ومن ثم فالتوكيد عليها هو من باب التوجيه التربوي النفسي، ويدخل في مجال تحسيس الشخص بضرورة مراقبة ذاته. فالنية المخلصة لله هي شعور أولا، ومن ثم فقنوات التربية والتنشئة الاجتماعية هي المسؤولة عن تكوينه وتنميته، ويبقى أمر استشعاره سلوكا وجدانيا فرديا. ولو تمثلنا هذا المعنى جيدا لارتفع من واقعنا الكثير من الأمراض التي تسمم العلاقات الاجتماعية، حيث تجد البعض يضع نفسه موضع الخالق الخبير العليم بما تخفي الصدور!! حتى تجده يحاكم الأفراد والجماعات على أعمال وتحركات يأتونها، مصدرا عليهم التهم جزافا زاعما بفساد المقصد والنية الدافعة إلى هذه الأعمال. ولو أنهم تأدبوا مع الناس فتركوا أمر نياتهم إلى خالقهم، ولو أنهم ارتفعوا وترفعوا عن النميمة في الأشخاص والحفر في نياتهم، لتبقى لهم من الوقت وطاقة التفكير ما يمكنهم من النقد البناء، وبهذا الأدب مع الناس، يمكن لهذا النقد أن يصل إلى أعماق وجدانهم وعقولهم ويؤثر التأثير الإيجابي. بينما إرسال التهم جزافا والخوض في تشويه الأشخاص والطعن حتى في سلوكاتهم وأعمالهم الخيرة بكونها نتاج نوايا سيئة، يؤدي إلى انتفاء إمكانية الصلاح والتصويب، لأنه يركز بداخلهم حواجز نفسية تمنع مرور النقد والتصويب إليهم. إن الإخلاص لله في العمل واستشعار هذه النية هو الذي يمنح حياة الكائن الإنساني دلالة ومعنى ويجعله يحس بقيمتها. ونسيان مراقبة الله للإنسان وتغييبها من حياته وشعوره يسقط كل كيانه ونشاطه في الحيرة والقلق واللامعنى، لكن هذا المبدأ ينبغي أن يبقى في حدود التوجيه التربوي للشخص ذاته، لأنه هو من يستطيع معرفة نيته ومدى إخلاصه. وإذا كان العمل خالصا، ولم يكن صوابا، لم يحقق الغرض، ولم يندرج تحت مسمى العمل المشروع شرعا. وإذا نظرنا إلى أعمال العنف مثلا التي يقوم بها البعض تحت عناوين إسلامية نتأكد من وجود اختلال في المقياس الشرعي للأعمال. أي الركون إلى مبدأ الإخلاص وفصله عن مبدأ الصواب. وفي يوم كنت أنتقد أعمال العنف التي مارستها بعض الجماعات، فتدخل أحد الإخوة وبنى نقده لي على أساس أن هؤلاء مسلمون مخلصون!! فقلت له هل يمنعنا إخلاصهم من نقدهم؟ إن النيات علمها عند الله. وحتى لو انكشفت لنا النوايا وتحقق لنا إخلاصهم فإن ذلك لا يمنع نقدهم، لأنه لو كان مجرد حسن النية كافياً في الأعمال ما احتجنا إلى فقه ولا إلى علم، ولكن الله لا يعبد الا بعلم، وهذا ما يؤكد احتياجنا إلى تجاوز النوايا وتحقيق الأعمال ونقدها للتحقق من مدى صوابها. وهذا ما يدعونا إليه النبي صلى الله عليه وسلم في حديث السفينة عندما أمر بالأخذ على أيدي الذين أرادوا خرقها رغم أن فعلهم صادر عن حسن نية، بل ما طلبوا إلا الخير والصواب ورغم ذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالأخذ على أيديهم، لنقرأ الحديث: >مثل القائم على حدود الله، والواقع فيها، كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها، وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على مَن فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقًا، ولم نؤذِ من فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا، ونجوا جميعًا<.(رواه البخاري) لا حظ أنهم كانوا مخلصين في إتيانهم لفعلهم (خرق السفينة)، ولاحظ أن الباعث إلى فعلهم لم يكن أذية الآخرين (ولم نؤذ من فوقنا!)، ورغم هذا الإخلاص والنية الصالحة أمر النبي بالأخذ على أيديهم. ما أكثر الإخلاص في بعض العاملين للإسلام، لكن للأسف ما أقل الصواب!