البلاغ الأخير الذي أصدره المجلس الوطني لحزب الأصالة والمعاصرة يقدم للباحثين في العلوم السياسية متنا سياسيا يمكن الاشتغال عليه من المساعدة على فهم الدور الحقيقي الذي كان يضطلع به راعي هذا الحزب عندما كان يتحمل المسؤولية في الداخلية، ذلك الدور الذي يتراوح ـ حسب مفردات خطاب البلاغ ـ بين التوظيف السياسيوي للأحداث لتصفية حسابات سياسية مع بعض الأطراف، وبين سياسة التحريض وتوريط الأجهزة الحكومية في صراع مع أحزاب سياسية بعينها. هذا الدور أصبح اليوم مكشوفا تعبر عنه بوضوح مفردات البلاغ الذي وقعه المجلس الوطني للحزب، والذي يحرض مؤسسة الوزير الأول والقطاعات الوزارية المعنية ويدعوها إلى تحمل مسؤولياتها والانتقال إلى مستوى الفعل، ويحرض وزير العدل على فتح المتابعة القضائية ضد حزب العدالة والتنمية! وبصرف النظر عن انكشاف هذا الدور، وطبيعة الثقافة الإقصائية التي تغذيه، فإن ما تضمن فيه جاء ليؤكد الخلاصات التحليلية التي انتهت إليها العديد من المواقف والافتتاحيات الصادرة في الصحف، والتي تتفق في مجموعها على أن ما يمارس اليوم من توظيف سياسوي لـرسالة عبد العزيز أفتاتي للسفير الفرنسي إنما يراد من ورائه استهداف استقلالية القرار الحزبي داخل حزب العدالة والتنمية، وخلق رأي عام وطني ضده، وهو ما فشل حزب الأصالة والمعاصرة في تحقيقه أو الاقتراب منه، وجاء بلاغ مجلسه الوطني ليؤكد فشله في إقناع الرأي العام بموقفه التحريضي ضد حزب سياسي شرعي، بل إن هذا البلاغ أسهم في تقديم خدمة كبيرة لحزب العدالة والتنمية، بحيث وضعه في موقع الضحية، وهو الدور الذي طالما انتقده حزب الأصالة والمعاصرة دون أن يدرك أنه بسلوكه السياسي يقوي شعبية حزب العدالة والتنمية ويعزز مواقفه النضالية . وفي ما يتعلق بالتوظيف السياسوي للأحداث، فيمكن أن نقف على كثير من المغالطات التي وردت في المقال الذي وقعه الأمين العام للحزب تحت عنوان إطلالة المحميون الجدد، والذي حاول من خلاله استغفال ذكاء المواطن المغربي واستثمار نسيان الذاكرة لكي يحرف الوقائع ويرتب عليها خلاصات سياسية: فالقول بأن قيادة العدالة والتنمية تم استضافتها من قبل السفير الفنزويلي في عز قطع العلاقات الدبلوماسية معها هو ادعاء لا تؤكده الوقائع التاريخية الثابتة، ذلك أن الاستقبال كان قبل قطع العلاقات الدبلوماسية، ثم إن الأمر لا يتعلق بزيارة قيادة العدالة والتنمية كما حاول المقال الذي وقعه بيد الله إيهام القارئ، وإنما كان ذلك ضمن وفد برلماني، وكان المفروض حسب ما تقتضيه أخلاق السياسة وشروط الأمانة العلمية ألا يمارس الشيخ بيد الله ما يسميه علماء الرواية ب التدليس بهذا الشكل الفاضح. ويشبه هذا الدعاء القول بأن قيادة العدالة والتنمية زارت إيران في عز قطع العلاقات الدبلوماسية معها، وهو ادعاء أشنع من سابقه، بحكم أن الرمز القيادي في العدالة والتنمية الذي زار إيران لم يكن بمفرده، وإنما يتعلق الأمر بوفد حزبي يضم نائبة برلمانية اتحادية، ثم إن الزيارة كانت متزامنة في نفس اليوم مع زيارة وفد طبي رسمي مبعوث من قبل وزارة الصحة، هذا فضلا عن كون الزيارة إنما كانت قبل قطع العلاقات الدبلوماسية مع إيران بيوم واحد! هذه المعطيات الصحيحة والثابتة تؤكد أن الأمر لا يتعلق بـالغيرة على الوطن والوطنية بقدر ما يتعلق باحتقار ذاكرة الشعب المغربي واستغفال ذكائه، وممارسة توظيف سياسيوي مكشوف ضد حزب سياسي حتى ولو اقتضى الأمر تحريف الوقائع وتطويعها. ومنها أيضا الادعاء بأن حزب العدالة والتنمية حاول الاستقواء بنتائج استطلاعات الرأي التي أجراها المعهد الجمهوري الأمريكي، وهو الادعاء الذي تكذبه مواقف الحزب حينها، والتي لا زالت موثقة، إذ كان حزب العدالة والتنمية أول من رفض نتائج هذا الاستطلاع واعتبره غير علمي، وأنه يخدم سياسة من التخويف من الإسلاميين، لكن يبدو أن ذاكرة البعض قصيرة، أو أنه لم يكن حينها موجودا، فهو معذور بجهله إن أحسنا الظن به. إذ كيف لمن يريد أن يستقوي باستطلاع أن يكون أول من يقف ضده وضد خلفيته وضد علميته.أما قضية العبادلة ماء العينين التي وصفه موقع المقال بأنه متهم في خلية ذات ارتباطات دولية، فلا يعرف سياق إقحامه في هذا الموضوع بعد أن أكدت هيئة دفاع القيادات السياسية الستة أن رواية وزارة الدخلية لا يمكن أن يصدقها أحد حتى وزارة الدخلية نفسها، إذ لو كانت مقتنعة تماما بصحة روايتها لما تدخلت - ومعها وزارة الاتصال - للتأثير على القضاء وتوجيهه.والمفارقة، أن السيد بيد الله سبق أن اعترف بأنه كان من مؤسسي جبهة البولساريو. ومن كان هذا ماضيه، والتوبة تجب سيئات الخيانة للوطن، لا يحاسب شخصا لم يسبق له أن كان في صف أعداء وحدتنا الترابية، ولا حمل السلاح ضد بلده، وكان ماضيه، على العكس من ذلك، ماضيا مشرفا في الدفاع عن الوحدة الترابية إذ لم تزعزع مواقفه بالرغم من الاعتقال السياسي.