من خلال رصدكم لواقع المجال الديني بالمغرب، ما هي التحولات التي شهدها؟ هناك إشكالات كثيرة، من أهمها ما سبقت الإشارة إليه من تسلط التيار الاستئصالي المتطرف على هذا المجال وتدخله فيه ولو من وراء ستار، فهذا عائق كبير. أيام السيد عبد الكبير العلوي المدغري، وبالرغم مما شاب هذه الفترة من مد وجزر بين مؤسسة الأوقاف، ومؤسسة العلماء أو مؤسسة الحركة الإسلامية إلا أنها كانت مرحلة متميزة، وكان الشأن الديني بالمغرب تدور عجلته بشكل أفضل مما هي عليه الآن، كنت أفرح وأنا أرى بلدي يستقبل علماء العالم الإسلامي، وزعماء الحركات الإسلامية في ما كان يسمى بمؤتمرات الصحوة، والتي كانت تنظمها وزارة الأوقاف، على مستوى الإنتاج العلمي. وقد طبعت الوزارة في ذلك الوقت كتبا كثيرة ومهمة، وهو ما لا نراه اليوم، فـالتمهيد من أعظم كتب المالكية، بل من أعظم كتب الإسلام، والمعيار المعرب للونشريسي، أحد أهم كتب النوازل وأغزرها علما، وغيرها من كتب المالكية الكبار. عموما كان الإنتاج أفضل حالا. من الإشكالات الواضحة أيضا قلة العلماء، فبالرغم من المجهود الذي تبذله وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في تأطير ذوي الإجازات الشرعية، إلا أنه يلاحظ أن البلد يعاني من نقص في هذا الباب. قد يوجد طلبة علم، أو مشايخ متقنون لبعض الفنون، أرى بعضهم على قناة محمد السادس، لكن أين علماء المغرب الفطاحلة، المتمكنون من العلوم، أنا لا أعرف منهم اليوم إلا بضعة من كبار السن ـ أطال الله أعمارهم ـ لكن أين الخلف بين شباب الأمة وجيلها الصاعد؟! فلابد إذن من سياسة خاصة لهذا الشأن، هدفها تخريج أفواج جديدة من العلماء، فالكليات لا تثمر إلا القليل! إننا في حاجة إلى علماء متمكنين من فنون العلم وآلاته، وفي الوقت ذاته، عالمون بواقعهم، مسايرون لتطورات الحياة، واعون بمشاكل العصر وإشكالاته، متابعون لكل الأحداث والتغيرات على كل المستويات، مستحضرون لمكانتهم في الأمة وحقيقة دورهم فيها، فمثل هذا الصنف من العلماء لا يسقط من السماء، ولكن يحتاج إلى تكوين وتربية ومتابعة، و تسخير إمكانات مادية مهمة لذلك. إذا كان سعيد عويطة قد وضع بين يدي الدولة مشروع رياضي المستقبل، فإننا بحاجة إلى من يضع بين يديها، مشروع عالم المستقبل. ماهي انعكاسات ما تقول انه نقص في العلماء؟ من أعظم نتائج هذا النقص الحاد في العلماء ما نراه من توافد كل التيارات على بلادنا، وتمكنهم من وضع قدم فيها، ومن استقطاب شبابنا لاعتناق فكر منحرف أو فكر غال، إن الشباب حين لا يجد ما يملأ فراغه فكريا وعاطفيا ونفسيا لا يجد أمامه إلا الشبكة العنكبوتية تملأ فراغه، وتلبي حاجته، وهنا يكون صيدا سهلا لكل الأفكار شرقيها وغربيها، فقد يجد أمامه المواقع التي تدغدغ حماسه وعاطفته، وتدربه على صنع المتفجرات، فيخرج من مقهى الأنترنيت قنبلة موقوتة قد تنفجر في أي لحظة أو في أي مكان، وقد لا يروي عطشه إلا الفكر الشيعي المنحرف، بسبب ما يدغدغه هذا الفكر من عواطف، وما يثيره من شجون، وما يزرعه من حب انتقام لقتلة الإمام الحسين عليه السلام. وقد يصادف أثناء إبحاره مواقع تربي زوارها على عقائد التكفير والغلو والتطرف، فيخرج من المقهى متسخطا ناقما حاقدا على الجميع، وقد يبحث عما يملأ وجدانه، فلا يقع إلا على منتديات عبدة الشياطين، فيصير متمردا على دينه وأصوله وتقاليده، بل والعياذ بالله قد تستقطبه تيارات التنصير فيغادر المقهى مرتدا مبدلا لدينه، والذي يتحمل كبر كل هذا هو هذا الفراغ في المساجد ، ودور الشباب، والمراكز الثقافية، والإعلام بكل أشكاله، على الرغم من المحاولات المحتشمة. فيجب أن نعترف بأن السياسة التي اتبعت في هذه السنوات فشلت في الاحتواء، وكان التفاعل الشعبي معها ضعيفا، لضعف وسائل التواصل وعجزها عن تقديم مادة مغربية مؤثرة. في رأيكم، ما هي أهم التحديات التي سيواجهها المغرب خلال العشر سنوات المقبلة؟ لا شك أن هناك تحديات كبيرة، ينبغي أن تكون الخطط و الاستراتيجيات قد وضعت لتجاوزها، و لا شك أن أعظمها و أهمها هو الجهل و الأمية التي لازالت مستفحلة، نحن في القرن الخامس عشر الهجري، و الحادي و العشرين الميلادي، و لازالت نسبة الأمية المحضة، أما نسبة الأمية بمقاسها المعاصر، فأظنها تتجاوز التسعين بالمائة، إذن لا نستغرب أن يكون الإنتاج ضعيفا، وحركة العلم راكدة، أستغرب كيف أن بلدا مقهورا محتلا مغتصبا كفلسطين نسبة الأمية فيه كانت صفر في المائة، ولا تتجاوز اليوم 3 أو 4 في المائة بحكم سياسات الحصار و التضييق و التجويع وقصف المدارس واغتيال الأطر، بلد ينعم بالأمن والاستقرار وإمكانات لا بأس بها لازال يصارع الجهل والأمية وقلة الوعي، ولازال للشعوذة والخرافة سوقها النافق والرابح. أرى أيضا أن من أكبر التحديات على هذا المستوى ما يمكن أن أسميه بعولمة الأفكار، كيف يمكن حماية الشباب من الأفكار المنحرفة، و التيارات الضالة، في ظل هذا الإنفتاح العالمي، و تحول العالم إلى قرية واحدة؟ كيف يمكن مسايرة هذا التطور التكنولوجي المرعب، الذي لازال لم يتوقف عن اختراع ما ييسر المعلومات، ويوصلها بأسهل الطرق و أسرعها، عن طريق الأنترنيت الذي دخل كل بيت، والأطباق الهوائية التي صارت أرخص من البطاطس و الطماطم، و الهواتف النقالة التي أصبحت مكتبات متنقلة، و محطات استقبال للقنوات، و مصدر لاستقبال المعلومات في وقت واحد، كيف يمكن تحصين شبابنا وأبنائنا، وتقوية أجهزة المناعة عندهم حتى لا تتلوث عقولهم و أذهانهم؟. من التحديات الأساسية، كيف سيتم التعامل مع أجيال شابة، منبهرة بالنموذج الغربي، و لا أقول النموذج الفرنسي كما كانت عليه أجيالنا، بعد التراجع الحاد للفرنكوفونية في العالم و في بلادنا، كيف يمكن التوفيق بين الانبهار بالحضارة الغربية، و بين التمسك بالدين و القيم و الأصول، و إلا ستكون النتيجة أجيالا ممسوخة متخلفة علميا وثقافيا، لا تعرف من الغرب إلا تسريحات الشعر الغربية، و السراويل النازلة.