لعل من بين الخلاصات الأكثر إثارة في هذه الدراسة، تلك التي تؤكد أن الأساتذة الباحثين كافحوا طويلا من أجل الحصول على مرتبة الأستاذ، سواء ضد وضعهم الاجتماعي، فهم في أغلبهم أبناء فلاحين ومستخدمين وعمال، أو ضد السياسة الرسمية التي تعمل على تكريس التفاوت الاجتماعي من خلال الإعلاء من شأن أبناء الطبقة الميسورة على حساب الفقراء أبناء الشعب. وبالإضافة إلى الخلاصات الكارثية في علاقة الأستاذ بدوائر اهتمامه وإنتاجه، فإن الدراسة تسلط الكثير من الضوء على المسار الاجتماعي والمهني للأساتذة الباحثين في مجال العلوم الاجتماعية والإنسانية، بدءا من المنحدر العائلي لهم ومدى تأثيره على تحصيلهم الدراسي، مرورا بمراحل تكوينهم والجامعات التي درسوا بها، وتخصصاتهم العلمية، وانتهاء بتصور الأستاذ الباحث لمهنته وعلاقته بمؤسسة الجامعة ومجموعات البحث فيها، وذلك بالاعتماد على دراسة أجوبة عينة من الأساتذة نسبتها 40 في مائة من عدد الأساتذة الباحثين في المجال المذكور، خلصت إلى نتائج مثيرة تعكس واقعا مأزوما جدا. الجامعة مؤسسة أهلقراطية تبرز الدراسة أن المؤسسة الجامعية في المغرب هي مؤسسة شعبية بامتياز، أو ما أسمته الدراسة الهيكلة الأهلقراطية للجامعة المغربية، بمعنى أنها لا تعكس أي طبقية في المجتمع، ذلك أن البحث في المسار الاجتماعي والمنحدر العائلي للأستاذ الباحث يفيد أن نسبة كبيرة منهم، تتجاوز 60 في المائة، هم أبناء الفلاحين والمستخدمين والعمال. وضع كهذا، يؤكد أن لا علاقة ارتباط ملموسة بين الانتماء الاجتماعي ورتبة الأستاذ، هذا يعني، حسب الدراسة أن تأثير الانتماء الاجتماعي كعامل محدد للمسار المهني يختفي تماما بعدما يفرز تأثيراته على المسار الدراسي للطالب أو التلميذ. كل التفصيلات الأخرى التي تعرضها الدراسة لا تؤثر على هذه الحقيقة، من بينها مثلا أن مستوى تعليم الأب يؤثر على اختيار ابنه، أي التفضيل بين كليات الآداب أو الحقوق، فأبناء المهن الحرة والأطر العليا يوجهون أبناءهم إلى الحقوق والإقتصاد، بينما يفضل أبناء الفلاحين والعمال والمستخدمين الآداب على الحقوق. تفسر الدراسة هذا التمايز بنظرية الاختيار العقلاني، فالطلبة الذين ينتمون إلى الطبقة الاجتماعية المتواضعة يلجؤون إلى التخفيف من التكاليف والمخاطر بمتابعتهم للدراسات الأدبية التي تمنحهم أمنا مهنيا أحسن في التعليم ما قبل الجامعي، علما أن اختيار الحقوق يبقى اختيارا ممكنا بعد ذلك. وإذا كانت الجامعة مؤسسة أهلقراطية كما تؤكد الدراسة، فإن السياسة التعليمية تسير على العكس من ذلك، يؤكد هذا سلوك صاحب القرار السياسي تجاه ملفين تحديدا: الأول هو ملف المنحة، والثاني هو ملف سياسة التوظيف. بالنسبة للأول توضح الدراسة من خلال دراسة المستفيدين من المنحة التي تقدمها الدولة سنويا للطلبة، أن 25 في المائة من الأساتذة الباحثين هم من استفادوا من المنحة، بينما 55 في المائة مارسوا نشاطا مهنيا حتى يتمكنوا من إنهاء الدكتوراه، فيما 15 فقط أنهوا الدكتوراه بمساعدة أسرهم. المثير هنا أن المنحة، تقول الدراسة، استفاد منها الأساتذة أبناء الطبقات الميسورة أكثر من غيرهم، فأبناء الأطر العليا أو المهن الحرة استفادوا بأكثر مرتين من أبناء الفلاحين والعمال والمستخدمين. أما فيما يخص سياسة التوظيف فإن الأمر كارثي أكثر، فغياب التوظيفات الحديثة أدى إلى نتيجة مقلقة حيث أن بنية المناصب تحولت بخطورة لفائدة الأستاذ على حساب المساعدين والأساتذة المساعدين. عدم التوظيف يعني عدم تحضير الخلف، كما يعني حصر توظيف الشباب، وبالتالي إبعاد المتميزين منهم عن الانخراط في المهن الجامعية. التنمية العلمية والبحث تبرز الدراسة أن تحقيق التنمية العلمية رهينة بمكانة العلم والعلماء في أي مجتمع، وخاصة تصور هذا المجتمع لمهنة الأستاذ الباحث. هذه أطروحة ليست بجديدة، فهي كانت وراء إنشاء الجامعات والأكاديميات في أوربا، غير أن الدول النامية ومنها المغرب تعاني اليوم من معضلة مرشحة لأن تصبح خطيرة. هناك اليوم وعي متزايد لدى المتميزين بأن الجامعة أصبحت أقل جاذبية، والسبب هو أن هؤلاء الطلبة يعتقدون أن المكافآت الاجتماعية التي يقدمها المجتمع لا تتماشى مع التضحيات التي تطلبها تكوينهم. يتعلق الأمر هنا، وفق المقاربة التي اعتمدتها الدراسة، بأبعاد ثلاثة: الاقتصاد والنظام والسلطة. لتوضيح ذلك قارنت الدراسة بين عشرة مهن، قابلة نسبيا لذلك، بحكم أنها تتطلب مستوى تعليميا عاليا وتكوينا وتأهيلا طويل المدى وترقية مبنية مبدئيا على الاستحقاق الذي يعطيه السوق أو الإدارة، هذه المهن هي: العامل، العقيد، الطبيب، المحامي، الأستاذ الجامعي، والمهندس، رئيس محكمة استئناف، عميد مقاطعة شرطة، مدير مركزي بإدارة عليا. (انظر الجدول أسفله). تؤكد الدراسة أن صورة الأستاذ الجامعي متدهورة، ففيما يخص الأجر، فإن الأستاذ الجامعي يحتل المرتبة ما قبل الأخيرة، أي ما قبل الصحفي، العامل والعقيد في المراتب الأولى، المشكل الأكبر وفقا لهذه الدراسة أن صورة الأستاذ الجامعي تتدهور مع تقدمه في السن وحصوله على الترقية، من هنا الرغبة في مغادرة الجامعة عند أول فرصة تتاح له، كما عبّر عن ذلك ثلث المستجوبين(العينة 1400). رفعة الأستاذ كذلك متأخرة، وبالنسبة للسلطة، يأتي في آخر مرتبة وبأضعف معدل. هذا الواقع المتدهور يدفع باتجاه الفوضى كما تعبر الدراسة، التي حاولت البحث في علاقة الأستاذ الجامعي بمهنته(الرضى)، وبمؤسسته(الولاء)، وبزملائه في الجامعة من خلال إحداث مجموعات علمية(التجانس). في علاقته بمهنته، تكشف الدراسة استنادا إلى الاستبيان أن نسبة الأساتذة الراضين أو الراضين جدا لا يتجاوزون نسبة 30 في المائة، بينما 70 في المائة غير راضين، والأدبيين هم أقل رضى، أما المثير فهو أن الأستاذ الجامعي كلما صعد في الدرجات كلما ازداد عدم الرضى لديه. تفسر الدراسة هذا التناقض البيّن بالاستناد إلى نظرية الحرمان النسبي، على محدوديتها في الإحاطة بهذه الظاهرة، خاصة فيما يخص تغير مستوى عدم الرضى. أما في علاقته بمؤسسته، تؤكد الدراسة أن الولاء للمؤسسة هو خير مؤشر على الاندماج، بالنسبة للتحليل الذي تقدمه الدراسة الكمية التي اعتمدت على الاستبيان، يفيد أن ثلث المستجوبين يريدون مغادرة مهنتهم، 46 في المائة يريدون ممارسة مهن حرة، مثل تأسيس مكاتب دراسات، أو مهنة المحامات، أو إحداث مقاولات، أو مختبرات بحث...حينما اقترحت الدولة المغادرة الطوعية، أكدت الدراسة أن العديد من الأساتذة الجامعيين سارعوا إلى التسجيل بلوائح المرشحين، لأن الفوائد كانت استثنائية، ويفترض أن يكونوا متحلين بولاء استثنائي ليمتنعوا عن طلب المغادرة. لكن الولاء للمؤسسة يفترض وجود مجموعة علمية، غيابها يعني ميلهم إلى التوجه نحو أسواق أخرى. تفيد الدراسة أن نسبة قليلة وضيقة من الأساتذة الجامعيين ممن تمكنوا من الاندماج في الشبكات العلمية الوطنية والدولية، على سبيل المثال حينما سئل الأساتذة هل توجد مجموعة علمية، 40 في المائة أجابوا بنعم، بينما 60 في المائة لهم رأي مخالف. لكن الدراسة كشفت الكثير من المعطيات، فهي أكدت أن هناك ثلاث مجموعات علمية كبرى في صفوف الأساتذة الباحثين، الأولى هي جد متجانسة، الأساتذة المنتمون إليها ينشطون على المستوى الدولي، وهم أعضاء في لجان مجلات أجنبية وكذلك الوطنية، يشاركون في مؤتمرات دولية ولهم علاقات بحث ويقومون بخبرات لفائدة جمعيات مهنية أو غيرها. أما المجموعة المناقضة للأولى فهي تتسم بعدم تجانسها، وتتكون من أشخاص يوجهون اهتمامهم للطلبة والجمهور المستنير وينتجون كتبا هي في الحقيقة دروس توجه إلى السوق المحلي. أما المجموعة الثالثة فهي تحتل موقعا وسطا تتميز بكونها لها إلمام كبير بالحقول المعرفية ولكنها لا تنتمي إلى أي مجموعة علمية.