لعل كشف وتحليل نحو 57 ألف وثيقة طيلة الفترة ما بين 1960/ 2006 هي مجمل الإنتاج الفكري المغربي في العلوم الاجتماعية والإنسانية، تعتبر عملا فريدا من نوعه. تكشف الدراسة أن الدافع نحو الإنتاج يختلف بحسب دوافع الأستاذ المنتج ومعرفته بالسوق، كما يختلف من تخصص علمي إلى آخر، وبحسب لغة النشر كذلك. وإن عرف الإنتاج الفكري تطورا عاما، فإن المثير، بحسب الدراسة، هو أن غير الأساتذة تجدهم يحتلون مراتب متقدمة مقارنة مع الجامعيين في الفترات الأخيرة، كما اعتبرت أن الإجراءات التي جاء بها الإصلاح الجامعي تأثيرها منعدم، وفي أحسن الأحوال يكون سلبيا. أي إنتاج لأي سوق ثمة ثلاثة أسواق يتوجه إليها الأستاذ المنتج حين يؤلف كتاب أو يكتب مقالا أو غير ذلك، تبرز الدراسة أن التقسيم المذكور يفرز ثلاث مجموعات علمية بالضرورة. تتكون السوق الأولى من المجموعة العلمية المكونة من النظراء والأنداد، يلجأ الباحث إلى زملائه في هذه المجموعة، فقواعد البحث والتقييم معترف بها وتحترم بصرامة، في هذا السياق فالمكافأة تصدر منهم، سواء بالاعتراف به وبتميّزه، أو عبر ترقيته أو تخويله منصبا جامعيا يستحقه، لكن هذا النموذج لا يوجد في المغرب، ويمكن التفكير فيه، تؤكد الدراسة. أما السوق الثانية، فالأستاذ الباحث فيه يستهدف الجمهور المستنير وأيضا نظراءه، وينتظر المكافأة منهما معا، هذا يجعلهما في منافسة، وفي النهاية يفضل الأستاذ الباحث أن يخضع لتقييم الجمهور عوض تقييم نظرائه في التخصص، وتؤكد الدراسة أن الأساتذة الباحثين في المغرب هم من هذا الصنف. ثم هنا سوق ثالثة يتوجه فيها الباحث إلى الجمهور الواسع، هذا بالنسبة للرواية أو مقالات الجرائد والإنتاجات الفكرية. وتؤكد الدراسة أن الأساتذة الباحثين في المغرب يميلون إلى السوق الثانية والثالثة، أكثر من الأولى، لأن مساره المهني لا يتوقف لا على حجم ولا على جودة ما ينتج. حصيلة نصف قرن بلغت حصيلة ما أنتجه المغاربة من الجامعيين حوالي نصف قرن 1960/2006 وغيرهم نحو 57 ألف إصدار، تتوزع بين 30 ألف مقالة و13 ألف كتاب و14 ألف وثيقة. لكن ليس كل الأساتذة الجامعيين منتجين، تؤكد الدراسة أن التوزيع مدهش من حيث النتائج المهولة التي يكشف عنها. بالنسبة للمؤسسات التي تدعم النشر فهي نادرة، قليل جدا أن تجد مؤسسات جامعية مكّنت أساتذتها من نشر وثيقة واحدة طيلة 15 سنة الأخيرة. باستثناء جامعات القرويين وكلية الحقوق في مراكش وكلية الآداب سايس بفاس وبعض المعاهد العليا. هذا مهول، فمقارنة عدد المنشورات بجميع أنواعها بعدد الأساتذة النشيطين في مؤسسة التعليم العالي تكشف أن أكثر من 55 في المائة لم ينشروا ولو سطرا واحدا طيلة حياتهم. هذه النتيجة القاتمة يمكن التخفيف منها بالقول إن جميع المؤسسات لم تتأسس في سنة واحدة، غير أن اللائحة الشاملة للجامعيين الذين لم يسبق لهم أن نشروا ولو وثيقة واحدة توضح أن العقم الفكري لا يشمل فقط الجامعات والجامعيين الشباب بل هي مستوطنة في أقدم الكليات وعند الأساتذة المسنين، وهذا بارز في كليات الحقوق بالرباط والدار البيضاء وفاس وبكليات الآداب في مراكشوالبيضاء وأكادير وفاس والرباط. وفي المحصّلة فإنه ليس هناك أي ارتباط ممكن بين حجم مؤسسة التعليم العالي وعدد من المنتجين من الأساتذة الباحثين. وبخصوص توزيع الإنتاج، تكشف الدراسة عن معطيات مثيرة، فمعدلات الإنتاج تكاد تكون مستقرة على امتداد الوقت وإن كانت تختلف حسب نوعية الوثيقة، الإنتاج أكبر بالنسبة للمقالات مقارنة مع المساهمات ثم الكتب. كما أن تفاوتات الإنتاج بين الأساتذة تبقى مستقرة على امتداد الوقت، وهذه نتيجة مخالفة للكثير من الدول الأوربية والأمريكية، فالمفترض أن الباحث إذا نشر مرة واحدة فإن احتمال النشر لديه للمرة الثانية يزيد، وهذا غير صحيح في الحالة المغربية. معنى هذا، بحسب الدراسة، أن الإنتاج العلمي في المغرب هو أنه لا يخضع لنفس الآليات الأولية التي أكدها النشر في دول أوربية وأمريكية، ولأن الواقع يؤكد العكس، فإن الإنتاج المغربي لا يتقوى ولا تتم إعاقته، وبما أن الدولة المغربية لا تستثمر موارد مالية من أجل تشجيع البحث، ولأن الترقية لا ترتبط بالمنشورات، فإن الأستاذ غير مشجع لينتج. وإذا حصل فإنه يكون لأسباب غير مرتبطة بوجود سياسة عمومية أو الدخول في منافسة داخل مجموعة علمية. أما تأثير الإصلاح الجامعي الذي نص على أن تأخذ لجان التقييم بعين الاعتبار البحث والمنشورات كمعايير إلى جانب التدريس، فإن الدراسة تقول بأنه يمكننا أن نتنبأ بدون كثير من الخطأ أن إصلاحا كهذا سيكون له في أحسن الأحوال تأثير منعدم أو في أسوئ الحالات تأثير مضاد للإنتاج. بين الأستاذ الجامعي وغيره تبرز الدراسة أن التفاوت في الإنتاج بين الأستاذ الجامعي وغير الجامعيين مؤكدة، بالنسبة لمعدلات الإنتاج تكاد تكون ثابتة مع امتداد الوقت، ولكنها تتغير حسب طبيعة الوثيقة، وعلى العموم فإن إنتاج غير الأساتذة يقل عما هو عليه عند هيئة الأساتذة بالنسبة لكل أنواع الوثائق. كما أن تفاوتات إنتاج غير الأساتذة مستقر على امتداد الوقت. استقرار هذا التباين عند غير الأساتذة كما هو الشأن عند الجامعيين، يرجع بحسب الدراسة إلى غياب أي آلية يمكن أن تكون عاملا يزيد أو ينقص هذا التباين، كما أنه ليس هناك أي تغيير في سوق الطلب منذ بداية الستينات. لكن المثير في هذا السياق، هو أنه لا اختلاف في طبيعة الإنتاج بين الأساتذة الباحثين وبين غير الأساتذة. بمعنى أنه لا يمنح التخصص عند الجامعيين لهم أي ميزة تنافسية مع غير الأساتذة. السبب بحسب الدراسة هو أن كلا المجموعتين تتوجهان إلى نفس سوق القراء. وإذا كان الإنتاج العلمي في أمريكا وأوربا يتوجه إلى المجموعات العلمية فإن الإنتاج العلمي في العلوم الاجتماعية والإنسانية في المغرب يتوجه إلى جمهور آخر. تطور الإنتاج العلمي طيلة الفترة زمن الدراسة، مرّ الإنتاج من عدة مراحل، هناك فترة أولى نمو الإنتاج فيها كان ضعيفا، ما بين 1960 حتى 1981 لم يتجاوز الإنتاج 1000 إصدار. بعدها دخل الإنتاج مرحلة جديدة، فيها زيادة ملحوظة، ما بعد الفترة الخماسية 1977/,1981 ثم دخل الإنتاج في زيادة قوية مستمرة حتى الآن، من 1986/,2001 ثم بدأ حجم الإنتاج يعرف بعض الانخفاض في 2002/.2006 طيلة الفترة المذكورة، هناك اختلاف أساسي بين تطور إنتاج الأساتذة وإنتاج غير الأساتذة، الفئة الأخيرة يتميز إنتاجها بأنه لم يسجل أي انخفاض في الفترة 2002/2006 على خلاف الجامعيين. تفسر الدراسة تطور الإنتاج لكلا الفئتين بازدياد التوظيف وإحداث جامعات جديدة في السبعينات وبعدها، انعكس على الإنتاج العلمي. كيف يمكن تفسير الانخفاض في الإنتاج في الفترة 2002/2006؟ هنا يجب استحضار القرار الحكومي حول المغادرة الطوعية، التي سمحت بمغادرة 2700 أستاذ وموظف في التعليم العالي، وهي نسبة كبيرة جدا. هذه السياسة، أي المغادرة الطوعية، تؤكد الدراسة أن تأثيرها على الإنتاج العلمي كان بكل وضوح سلبيا. ما تؤكده الدراسة هو أن الإنتاج العلمي في الفترة 2002/2006 عرف انخفاضا بنسبة الثلث، ولهذا فالإنتاج في العلوم الاجتماعية لن يبلغ حجما مهما كالذي عرفه في أواخر التسعينات. وبغض النظر عن الحقوق التي استمر فيها إنتاج الأساتذة بدون عياء، فإن لجوء الأساتذة إلى ممارسة أنشطة مهنية خارج الجامعة، كان هو السبب في انخفاض الإنتاج بكل تخصصات العلوم الاجتماعية في الفترة المذكورة.