أكد الدكتور سمير بودينار رئيس مركز الدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية بوجدة، على الحاجة الملحة إلى فضاء وطني للنقاش العمومي الواسع والمعمق حول مستقبل البحث العلمي في بلادنا، واعتبر في حوار مع التجديد أن الدراسة التي أنجزت حول سياسة البحث في مجال العلوم الاجتماعية والإنسانية، هي خطوة في اتجاه النظر المؤسس علميا في مسار البحث العلمي وأسباب النهوض به ببلادنا، وذلك على الرغم من النقد الذي قد يوجه إليها. وأوضح بودينار أن الإنتاج العلمي في المغرب مرتبط بمشروع متكامل للبحث العلمي، وبنية حاضنة ومشجعة له، وظروف اشتغال مناسبة والأهم من ذلك الشعور بالاعتبار وأهمية نتائج البحث العلمي وانعكاسها في القرارات والسياسات والنقاشات العمومية... وإليكم التفاصيل: حاورته: سناء القويطي كشفت نتائج دراسة حول سياسة البحث في مجال العلوم الاجتماعية والإنسانية قدمت في الملتقى الوطني لتقديم نتائج تقييم المنظومة الوطنية للبحث في مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية، عن معطيات صادمة تتعلق بالبحث العلمي في المغرب، هل تعتقد أن هذه النتائج أصابت فعلا لب الإختلالات والإشكالات التي يعرفها هذا المجال؟ لا شك أن الدراسة التي تم إنجازها وجاءت في شكل أرضية للنقاش الوطني حول سياسية البحث في مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية ببلادنا، والتي تم تقديمها في هذا الملتقى الوطني تكتسي أهمية من عدة جوانب، كونها أولا مبادرة غير مسبوقة، حيث أننا لم نكن نملك في المغرب بحثا بيبليومتريا في هذا المجال، وبشكل خاص على مستوى البحث المقارن بين النشاط البحثي والإنتاج العلمي للأساتذة وبين غيرهم من الباحثين، كما أنها تضمنت كما تفضلتم معطيات إحصائية ونتائج وخلاصات تعكس بصورة موسعة مؤشرات هامة عن مسار البحث العلمي بالمغرب في حقول العلوم الإنسانية والاجتماعية، حيث شمل التحري الكمي 1400 أستاذ باحث، ولقاءات ب300 أستاذ باحث في العلوم الإنسانية والاجتماعية. ومن بين نتائج الدراسة التي تمس جانب الاختلالات أن فرص استكمال الدراسة الجامعية في الخارج تزيد بحوالي 6 مرات عند أبناء الأطر العليا وأبناء الفئات المتوسطة والعليا مقارنة بأبناء الفلاحين مثلا، وأن أقل من ربع الأساتذة الباحثين استفادوا من منحة، وأن هنالك اتجاها لضمور قاعدة الهرم الذي يمثل رتب الباحثين في المجال حيث النسبة هي 36% للرتبة الأولى إلى 64%( الرتبتين الأعلى)، مع العلم أن النتائج بينت أن الذين استفادوا من ترقية مهمة كانوا هم الذين لديهم صورة أكثر تدهورا لمهنة الأستاذ. أضف إلى ذلك قياسات عدم الرضى لدى الأساتذة التي بينت أن 70% منهم غير راضين عن وضعيتهم، مع العلم أن النسبة تزيد تصاعديا مع تراتب الدرجات، وأن الجامعيين منهم أقل رضى بكثير مقارنة مع الذين يعملون بمؤسسات غير جامعية. لكن تظل أكثر خلاصات الدراسة إثارة للانتباه والقلق في تقديري هي تلك المتصلة بنسب الإنتاج لدى الباحثين، والتي تم لإنجازها التعامل مع 57000 مرجع منها 30000 مقالة و13000 كتاب و14000 وثيقة بمختلف اللغات، حيث بينت بالإضافة إلى التواضع الشديد في معدلات الإنتاج (تراوحت بين 1و2,2) مع اتجاه إلى الانحدار الواضح في مؤشر تطور الإنتاج الإجمالي للأساتذة ابتداء من سنة 2002 بعد فترة نمو ممتدة من منتصف الثمانينات إلى بداية الألفية الثالثة، بينت أن أكثر من نصف هيئة الأساتذة( 55%) لم ينشروا سطرا واحدا طيلة حياتهم. وإذا أردنا أن نتعامل مع هذه النتائج من منظور نقدي فإنه بإمكاننا أن نقف عند عدد من القضايا، من بينها مثلا أنه تم التركيز في الجانب التحليلي على محددات تطور الإنتاج العلمي وخاصة ما يسمى بالإنتاجية الصافية للأساتذة حسب الحقول المعرفية، بينما في مجال النقاشات لإعداد سياسية عمومية للبحث في مجالات العلوم الإنسانية والاجتماعية تم التركيز على على الفاعلين في مجال البحث وهم حسب الدراسة الفاعل المركزي أي الجامعة. وهذا المنهج الكلي في الدراسة خاصة بالنظر إلى أهمية الخلاصات التي تتطلع الدراسة للوصول إليها يظل قاصرا عن رؤية تحليلية مستوعبة وعميقة وشاملة، حيث تمتد المحددات التي تحكم تطور البحث العلمي في أي مجتمع كما الفاعلون فيه اليوم إلى مجالات واسعة، تبدأ من التصور الكلي أي المشروع المجتمعي الجماعي الذي ينتظم مفردات البحث العلمي ومشاريعه وبرامجه ويحفز عليه وفق رؤية واضحة ومشتركة يقع الباحث في عمقها، سواء من حيث اللغة التي نعرف أننا لا زلنا على الصعيد الوطني رغم كل النتائج العلمية التي تبين خطورة ذلك لم نحسم بعد مع اللغة الوطنية للمعرفة والبحث، مع العلم أن هذا الحسم هو الذي يمكن أن يقوي الانفتاح على أهم لغات العلم في عالم اليوم والاستفادة من نتائجها ، وأنه بات معروفا أنه لا وجود لمجتمع على الإطلاق استطاع أن يحقق نهضة علمية ولا طفرة في البحث العلمي أو يحقق مجتمعا للمعرفة بلغة غير لغته. أو من حيث ماهية المعرفة وخصوصياتها المجتمعية والتي تزداد أهميتها في مجال البحث في حقول العلوم الإنسانية والاجتماعية شديدة الارتباط بالإنسان وثقافته ومجاله وخصائص تجربته الجماعية وأسباب نهوضه، هذا فضلا عن البنية العلمية المتكاملة بمقوماتها المادية والتصورية التي تمثل شرط الإقلاع العلمي، إذ البحث العلمي والباحث المؤهل هو مُخرج منظومة التكوين بشموليتها، وفائض القيمة الحقيقي الذي يمكن أن تمثله. أظهرت الدراسة أن أغلب هيئة الأساتذة (أكثر من 55 بالمائة) لم تنشر ولو سطرا واحدا طيلة حياتها، هل يمكن تفسير ضعف الإنتاج العلمي في صفوف الأساتذة الباحثين بتدهور وضعيتهم الاجتماعية، خاصة وأن الأستاذ الجامعي يحتل على صعيد الأجور مرتبة ما قبل الأخيرة؟ ليس هنالك مؤشر واحد لظاهرة على هذا القدر من الخطورة يمكن أن يعطي صورة متكاملة عنها، ولا عامل واحد لتفسيرها لذلك أرى أننا أصبحنا في أمس الحاجة إلى فضاء وطني للنقاشات الموسعة حول مجمل القضايا المتصلة بالبحث العلمي وخاصة منه الإنساني والاجتماعي، فقد بينت الدراسة التي نتحدث عنها أن هنالك حاجة ماسة لرد الاعتبار للعلوم الإنسانية والاجتماعية ومؤسسات التكوين والإنتاج العلمي في حقولها المختلفة، ماديا ومعنويا كذلك، من حيث القيم الجماعية التي تحكم تصوراتنا لهذه التخصصات كمجال للدراسة، والصورة البدائية لأهميتها، حيث بينت المعطيات أننا وبنسب كبيرة جدا لا زلنا محكومين بنظرة دونية للدراسة في الشعب الأدبية مثلا (ورقة النقاش حول قضايا البحث الجامعي المغربي في مجال الآداب. عبد الحي المودن 2008 ضمن نتائج الدراسة)، وهي نظرة مجتمعية تحكم الأستاذ الباحث كذلك كما تتحكم في غيره، مما ينعكس رغبة للباحث في التوجه إلى مهن أخرى كما أكدت عليه هذه الدراسة، أو عدم نصح الأبناء بامتهان نفس المهنة (حوالي 15% منهم فقط يقترحون على أبناءهم مهنة أستاذ) فضلا عن تراجع محفزات البحث والإنتاج العلمي. الدراسة أظهرت أن إنتاج الأساتذة خارج الجامعة يفوق بكثير إنتاج الأساتذة الذين يشتغلون داخل الجامعة، كيف تفسر ذلك؟ كما قلت سابقا فإن تفسير أي من المعطيات الكثيرة التي وردت في الدراسة تفسيرا بناءا يحتاج إلى نقاش معمق وموسع، لكن لاشك أن الإنتاج العلمي مرتبط بما أشرت إليه سلفا من مشروع متكامل للبحث العلمي، وبنية حاضنة ومشجعة له، وظروف اشتغال مناسبة والأهم من ذلك الشعور بالاعتبار وأهمية نتائج البحث العلمي وانعكاسها في القرارات والسياسات والنقاشات العمومية، وهي شروط تؤكد الدراسة نفسها أننا لا زلنا بحاجة لأن نقطع شوطا كبيرا لبلوغها، وخاصة على مستوى المؤسسة الجامعية. كشفت الدراسة أن الإصلاح الجامعي الحالي لا يمكن أن يطور البحث العلمي وان تأثيره سلبي، ما مدى دقة هذه الملاحظة؟ لا شك أن الإصلاح الجامعي كمشروع قد جاء بعدد من الإيجابيات برغم ما أصبح يُخشى من تأثيراته، خاصة على المجال المخصص للبحث العلمي والأنشطة العلمية والأكاديمية العامة، من حيث المساحة الزمنية والفرص المتاحة من بين سلسلة الامتحانات المتتابعة، لكن المشكل ليس في مضمون الإصلاح الجامعي كتصور للنهوض بواقع الجامعة والبحث العلمي فحسب، وإن كان بحاجة إلى عملية تقويم ونقد ذاتي وجماعي مستمر، بل القضية أن البحث العلمي هو بالضرورة نتاج منظومة متكاملة تصورية وبشرية ومادية ومؤسسية وثقافية. والجامعة بخططها وبرامجها ومؤسساتها في التكوين هي جزء رئيسي من هذه المنظومة، لكنه ليس الوحيد، ومن هنا أهمية الدعوة التي أشرت إليها سلفا إلى أن يكون هنالك فضاء للنقاش العمومي الواسع والمعمق بإشراك كافة المتدخلين، حول مستقبل البحث العلمي في بلادنا، وهذه الدراسة في الواقع رغم النقد الذي قد يوجه إليها هي خطوة في اتجاه النظر المؤسس علميا في مسار البحث العلمي وأسباب النهوض به ببلادنا، وهو مجال لا ينبغي أن نتردد لحظة في التأكيد على أهميته الحاسمة، وفي كافة مجالات المعرفة على حد سواء.