من الضروري القول إن الشق الإسرائيلي من رحلة حج البابا قد بدأ من هنا من الأردن عندما أطل من جبل نبو وتحدث عن أرض الميعاد متبنياً الرواية اليهودية، مضيفاً تلك التصريحات الدافئة الأخرى عن العلاقة بين الكنيسة واليهود والكتاب المقدس، العهد القديم. لكن ذلك لم يكن كافياً لتبريد الأجواء في استقباله، حيث تسابق الحاخامات ورموز اليمين في وضع الاشتراطات في طريقه، إلى جانب التذكير بعضويته السابقة في منظمة للشبيبة الهتلرية، مع استرجاع ما تيسر من إشكالات مع الكنيسة الكاثوليكية. كل هذه الأجواء لم تكن غائبة عن وعي البابا، تماماً كما هو واقع قدرة اليهود على الحشد السياسي والإعلامي ضده إذا أرادوا، ولذلك لم يكن غريباً أن يميل إلى مهادنتهم كخيار أفضل من مناكفتهم، لكن القوم بعقلية الابتزاز التي تتملكهم لم يكونوا ليتوقفوا عن ممارساتهم التقليدية، لأن المطلوب هو تحويل المحرقة النازية إلى عقدة ذنب عند العالم كله تكرس خضوعه الدائم لمطالبهم ومطالب دولتهم. بدأ البابا مسلسل مجاملاته للإسرائيليين منذ اللحظة الأولى لوصوله مطار بن غوريون، ومن ثم زيارته إلى متحف ياد فاشيم لضحايا المحرقة، وكذلك زيارته حائط المبكى (البراق) في المسجد الأقصى وممارسة تقليد وضع ورقة في شقوقه، إلى جانب الخطوة المثيرة الأخرى ممثلة في استقباله عائلة الجندي الإسرائيلي الأسير جلعاد شاليط، تلك التي كشفت عمق استجابته للابتزاز الإسرائيلي، وبالطبع لما تعنيه من انحياز لأسير واحد (جندي قاتل) مقابل 11 ألف أسير فيهم المرضى والنساء والأطفال، كما أن من بينهم مئات ليس عليهم تهمة، ومنهم مئات قضوا أكثر من عشرين عاما في السجن. البابا، وفي سياق استرضاء اليهود تحدث عن معاداة السامية وضرورة محاربتها في العالم، من دون أن يسأل أحد عن سبب تصاعد الظاهرة، وبالطبع لأن الجميع يعرفون الجواب ممثلاً في الممارسات الإسرائيلية الهمجية بحق الشعب الفلسطيني، إلى جانب سياسات الغطرسة في عدد من دول العالم (ثمة استطلاعات ربطتها أيضاً بالأزمة المالية العالمية في ظل قناعة البعض بمسؤولية اليهود عنها). في متحف ياد فاشيم قال البابا أنتهز الفرصة لتبجيل ذكرى ضحايا المحرقة، وأن أصلي كي لا تشهد الإنسانية مجدداً أبداً جريمة بهذا الحجم، لكن ذلك لم يشفع له، حيث خرجت الصحف كما خرج الحاخامات ينددون بعدم ذكره لرقم الضحايا (ستة ملايين برأيهم)، وكذلك عدم اعتذاره عن دور الكنيسة الكاثوليكية في المذابح النازية، الأمر الذي لم يكن ممكناً بالطبع لما ينطوي عليه من إذلال للكنيسة وأتباعها. في موضوع التسوية لم يتوغل البابا كثيراً في الملف، فقد اكتفى بالقول أدعو كل المسؤولين إلى دراسة كل طريق ممكن باتجاه تسوية عادلة للصعوبات الكبيرة ليتمكن الشعبان من العيش بسلام كل في بلده، داخل حدود آمنة ومعترف بها دولياً، وهي كلمات يمكن أن ترضي الجميع، كما أنها تتحاشى أي انتقاد مباشر للإسرائيليين. في رحلته إلى الجانب الفلسطيني (مدينة بيت لحم ومخيم عايدة)، واصل البابا سياسة الحذر حيال استفزاز الإسرائيليين، لكن كلامه لم يخل من مجاملة للفلسطينيين فيما يتعلق بالجدار والحصار ومعاناة اللاجئين والتعاطف مع ضحايا الحرب في غزة، والمطالبة بإعادة الإعمار، وكذلك تحسين حياة الفلسطينيين، ومن ثم حقهم في وطن ذي سيادة، من دون أن ينسى نصيحتهم بمقاومة إغواء اللجوء للإرهاب والعنف، أي نبذ المقاومة. أيا يكن الأمر، فقد أكدت رحلة حج البابا أن السياسة كانت حاضرة في كل تفاصيلها رغم بعدها الديني، كما أكدت أن مسلسل ابتزاز اليهود للكنيسة الكاثوليكية لن يتوقف، ربما حتى تغدو مثل الكنائس المعمدانية الجنوبية في الولاياتالمتحدة صدىً للهواجس الإسرائيلية، أكثر منها منصة للتعبير عن الإيمان المسيحي الحقيقي. والحق أن عاقلاً لم يصدق أن المؤسسة الدينية المسيحية مقتنعة بالفعل بصواب مسلسل التغيير الذي أجرته على خطابها حيال اليهود، لكنها السياسة التي تعبث بكل شيء.