اكتشفت بين الأمازيغ أو بين الكرد عروبيون أكثر من العرب في ظل الرقابة ، وفي زمن العولمة التي أطلقتَ عليها كلمة لطيفة لفعل وسخ، وفي سياق تراجع المقروئية والإقبال على الكتاب نثرا وشعرا، هل لا يزال يجدي قول الشعر؟ الشعر لا يوضع في خانة الجدوى واللاجدوى، ولا يجوز للشاعر ولا يُطلب منه أن يجري دراسة جدوى كما في المشاريع الاقتصادية. فالشاعر يقول همّه وحلمه ويقول روحه ونفسه ودمه ومتخيله.. يقول طموحه.. يقول جموحه.. هذا ما يفعله، أما إذا كان يقدم أو يؤخر، فهذه مسألة منوطة بالعلاقة بين القصيدة والجمهور. ومن خلال تجربتي الشخصية أعتقد أن القصيدة ما زالت ضرورية ليس أكثر من الطعام، لكنها ضرورية ومطلوبة أيضا. لهذه القصيدة جماهير عريضة من كل أرجاء الوطن العربي وفي العالم أيضا. أنا أعتز بأصدقاء قصيدتي في أوروبا وفي أميركا وفي روسيا وفي جميع القارات.. هم أصدقاء قصيدتي، ويتحولون إلى أصدقاء شخصيين حتى لو لم أعرفهم. بهذا المعنى أقول: ما زال للشعر جدوى. الآن هناك من يعتقد أن تقلص القراءة يعني تقلص الاهتمام وهذا غير صحيح.أعتقد أن الفضائيات والأقراص المدمجة ساعدت في انتشار قصيدتي بشكل مذهل، ومن دون شك أكثر من الكتاب، رغم أن الناشرين العرب يعلنون أن نسخ كتبي تجاوزت المليون من أكثر من ربع قرن، لكن الفضائيات ووسائل الاتصال الإلكتروني تحافظ على هذا الاتصال ليقل عدد الكتب المطبوعة من دون شك، وأعرف هذا من طباعة كتبي.. أعرف أن هناك تراجعا في كميات الطباعة إلا أن هذا لا يعني تراجعا في علاقتي بجماهير الشعر. بالعكس هناك تغير في أسلوب اللقاء والتواصل مع هذه الجماهير. قلت إنك مريض بالتفاؤل. ما السر في هذا التفاؤل بعد كل هذه السنين؟ لديَّ معادلة ربما تبدو غريبة. أنا أقول: نقيض التفاؤل ليس التشاؤم.. نقيض التفاؤل هو الخيانة، لأن التشاؤم واليأس يعنيان إضفاء مصداقية على خصومي في هذا العالم سواء أكانوا خصوما سياسيين أم فكريين أم اجتماعيين أم شعريين أم حضاريين أم دينيين وما تشاء. إذا استسلمت في هذا الصراع للطرف الآخر بمعنى اليأس والتشاؤم، فأنا أعتبر هذا خيانة. وأنا لا أريد أن أموت خائنا بعد هذا العمر الطويل من الكفاح والبذل والجهد من دون تمنين.. لا أمنن أحدا.. أنا قلت ما يرضيني أولا، وما يرضي الله ثانيا، وما يرضي الشعب ثالثا. أنا عبَّرت عن ذاتي حتى أستطيع الاستمرار في الحياة بشكل طبيعي.. أمامي إما الجنون وإما الانتحار وإما الشعر، وأنا اخترت الشعر. هناك من اختار نفسه للبيع، وسبق أن قلتَ إن هناك مبدعين معروضين للبيع.. سميح مقاطعاً: نعم هم معروضون للبيع يعرضون أنفسهم. من دون أن يُطلب منهم ذلك؟ نعم يحددون أسعارهم أيضا. أحدهم يقول ثمني كذا، وآخر يقول ثمني أقل أو أكثر. لكنهم في المحصلة يتحولون إلى أقنان. فالمبدعون ليسوا طبقة.. هناك طبقة العمال، وطبقة البرجوازيين. لكن لا توجد طبقة المبدعين، هم فئة من الناس فيهم النظيف والشريف والملتزم حقيقة والصادق، وفيهم المشعوذ والدجال والمهرج.. هذه طبيعة البشر. في ظل هذا الوضع الثقافي، كيف السبيل للنهوض بالفعل الثقافي عربيا؟ أخي أنا قلتها وأقولها دائما: الثقافة هي خندق العرب الأخير، نحن منهارون سياسيا وعسكريا واقتصاديا وحضاريا أيضا، نحن تحولنا في نظر العالم إلى عصابات من الإرهابيين والقتلة والجهلة، وأنا أعرف أننا لسنا كذلك، نحن ضحايا الإرهاب ، لا يُعقل أن تلصق بنا هذه الصورة من جرَّاء لعبة سياسية ودبلوماسية واجتماعية واقتصادية قذرة جدا في العالم اسمها العولمة، لذلك الثقافة هي خندقنا الأخير، وهذا الخندق سندافع عنه.. مستعد للاستشهاد عن خندق الثقافة، لأنها الخندق الأخير لنا كأمة، وليس فقط كأمة وحضور عالمي، بل كأفراد وكبشر.. كأشخاص. الآن لا نستطيع إلا أن نخجل. العربي الصادق لا يستطيع إلا أن يخجل.. يخجل وهو يأكل.. يخجل وهو يسير في الشارع.. يخجل وهو يزوج أولاده.. يخجل وهو يخجل.. الخجل هذا ما نستحقه الآن. وللخروج من حالة الخجل حتى على المستوى الشخصي والفردي ليس فقط على المستوى القومي، لابد من إعادة صياغة الإنسان العربي بقيم لا تحتاج إلى دراسات. هناك دراسات حول العرب والقومية العربية، وأنا أقول هناك قيم عروبية.. هي التي نسمعها من جداتنا ومن أمهاتنا ومن آبائنا مثل الشجاعة .. الكرم..الشهامة.. النخوة.. عزة النفس.. الذود عن الحياض.. إغاثة الملهوف.. حماية المرأة.. حماية الطفل.. حماية الطبيعة.. هذه القيم أمهاتنا وآباؤنا وجداتنا وأجدادنا ربونا عليها.. هذه هي العروبة، وليست مسألة عرق أو جينات... الشعوب تداخلت واختلطت دما وثقافة ووعيا وفكرا، لذلك اكتشفت بين الأمازيغ أو بين الكرد أو بين الأرمن في الوطن العربي من يحمل هذه القيم، وفهو في نظري عروبي أكثر من العربي الذي تخلى عن هذه القيم.