القول الشعري عند الملياني لايخضع في تصنيفه للمفاضلة على أساس ضروبه عمودي، أفقي، نثري، بل بناءا على قيمته الجمالية الشعر احتفال دائم بالحياة، تأويل مجازاته تجعلنا ننظر إلى العالم بطريقة مغايرة، فبقدرما هو حلم، هو استشراف لآفاق الإبداع نحو عالم أجمل. بهذه العبارات استهل الشاعر إدريس الملياني، تصريحه ل«المساء» حول جدوى الشعر وجدوى الاحتفال باليوم العالمي في عالم متجهم، مثخن بالاغتراب والرداءة، يجيبنا الملياني بمقولة لديوستوفسكي: «الجمال وحده ينقذ العالم»، ويستدرك إدريس لو أن العالم كله استجاب لنداء الشعر وصوت الفن وكل أنواع الإبداع الإنساني الجميل لكانت حياة الإنسان على الكرة الأرضية أفضل حالا ومآلا. إدريس الملياني كان أول شاعر مغربي عبر عن حلمه بأن تفتح دورة السنة للشعراء بابا يطلون من خلاله على عالمهم الحميم والتهابات أسئلة حدائق الشعر... ذكر ذلك في حوار خصته به «القدس العربي» في زمن لم يكن للشعراء عيد في خريطة الوقت الأممي، وعبر عنه أيضا في حوار آخر مع حسن نرايس في كتيب من سلسلة شراع، وفي كتابه «سنديانة الشعراء». هذا التوقع الحالم تحقق، وصار للشعراء عيد يستعيدون من خلاله قلق أسئلتهم حول واقع المنجز الشعري واستشراف آفاقه. في هذا السياق سجل الملياني انفتاح الشعر المغربي على محيطه الوطني، وانفتاحه أيضا على أفقه الكوني من خلال ما ترجم إلى لغات العالم، غير أن هذا الانخراط في خريطة جغرافيات الشعر العالمي من خلال لغاتها الأصلية لم يواكبه من وجهة نظر الملياني، استثمار الشعر المغربي في شقه العروبي أوالأمازيغي للمرجعيات الوطنية كالمحكيات الشعبية، التاريخ، الأسطورة، وغيرها من الأشكال التراثية التي تكاد تكون غائبة عن الديوان المغربي. ويضيف الملياني أن الشعر أصبح ذاكرة تعبر في جميع الأوطان عن المصائر الكونية، وفي هذا الأفق العالمي يخوض الشعراء الأجانب والأقارب مغامراتهم الإبداعية، منخرطين في نداء السلم ونبذ الحروب والعنف وكل أشكال التطرف والإرهاب، داعين إلى تسييد قيم المحبة والصداقة والتعاون الأممي بين الشعوب من أجل حياة أجمل على ظهر هذا الكون المهدد بالحروب والتلوث وأسلحة الدمار الشامل. بناءا عليه يضحى الاحتفال بحد ذاته، من منظور الشاعر الملياني تأملا في أسئلة الشعر وجدواه ووظيفته الجمالية وفرصة لاستعادة الذاكرة الشعرية في المغرب والوطن العربي والعالم. القول الشعري عند الملياني لايخضع في تصنيفه للمفاضلة على أساس ضروبه عمودي، أفقي، نثري، بل بناءا على قيمته الجمالية، ويبقى القارئ والتاريخ هو الحكم والفيصل الأول والأخير. وطالب إدريس كل الجهات الرسمية ومؤسسات المجتمع المدني والسياسي بإعطاء عناية خاصة للشعر، وبأن يتراص الجميع حتى يسترد الشعر دوره في المجتمع ليستعيد توازن روحانيته، فبغيابه تغيب الحكمة والعافية. «تحية إلى الشعراء جميعا أقارب وأجانب وإلى الأعزاء في المنابر الإعلامية بمناسبة هذا اليوم..»بهذا الشطر استكمل إدريس حديثا لم يكتمل. وفي شطر ثان يصلنا موقف شاعر آخر في لغة نثرية، إنه الشاعر محمد بودويك الذي أعادنا إلى المواصفات الاستعادية للإحتفاء بالشعر، وهي مواصفات من طراز خاص. في هذا السياق ذكر بالمبادرة التي أطلقها بيت الشعر في المغرب الذي كان على رأسه آنذاك محمد بنيس، حيث دعت إلى تكريس يوم وطني مغربي للاحتفال بالشعر، الهدف منه في نظر بودويك حمل المتلقي القارئ بمختلف نخبه على قراءة المنتوج الشعري المغربي، وبذلك سيكون هذا مدعاة للشاعر كي يجود كتابته وأدواته والسمو بمنتوجه الشعري حين يجد نفسه منتبها إليه، وأن تجربته هي رهن الاعتبار والتتبع، مشيرا إلى الصدى الذي لقيته المبادرة المغربية من طرف اليونسكو على عهد فيدريكو مايور، حيث أضحى الاحتفال عالميا يتزامن مع فصل الربيع، وليصبح مناط اهتمام وتتبع ومناط مناقشة وحوار بين الشعراء عبر العالم. من جهة ثانية طرح بودويك، احتمال تفكير الشعراء والنقاد في تخصيص يوم عالمي للشعر، بعد أن فطنوا بدرجة أولى أن هناك ألوانا أخرى من التعبير والفنون المختلفة بدأت تزاحم الشعر وتحظى بانتشار واسع لدى قراء الرواية والسينما، كما ربط التفكير بالاحتفال إلى احتمال استحضار هؤلاء النقاد والشعراء مسألة العزوف عن القراءة، وهو أمر وارد وحاضر بقوة ويثير القلق، مشيرا إلى أن سمة العزوف عن القراءة تستفحل فقط بالعالم العربي تحديدا، حيث ضمور القراءة وابتعاد الناس عن الكتاب مطلقا، يستوي في ذلك الطلبة ورجال التعليم وشرائح أخرى من المجتمع. ويردف الشاعر الناقد المفارقة المحيرة في كل هذا أن الغربيين والآسيويين والأمريكان رغم تقدمهم التكنولوجي الهائل والصورة في مقدمة ذلك، والشبكة العنكبوتية الطاغية في تلك البلدان، فهؤلاء يقرؤون بشراهة ويقبلون بنهم على الكتاب والجرائد والدوريات في المترو وفي المحطات المختلفة بالمطارات وفي الحافلات العمومية وفي الأسواق الممتازة. هناك الكتاب له ارتباط عضوي بالحاسوب كل في يد، لأنهم أدركوا ويدركون من زمان أن القراءة غذاء الروح. وتساءل الشاعر بودويك على ضوء هذه المقارنة هل هناك أسباب موضوعية عن القراءة؟ وفي معرض جوابه يرى أنها ترتبط أساسا بالنظام التربوي المتبع لا بالقدرة الشرائية للناس كما يزعم الكثيرون، وبالتربية الأسرية المتمدنة. ويلاحظ على المناهج والبرامج التربوية في كثير من مستوياتها إبعاد التلميذ عن قراءة الكتاب المغربي بكل أجناسه الإبداعية وأيضا المنتوج السنيمائي والتشكيلي المغربي، مبرزا خلو فضاءات المؤسسات التربوية بالإعدادي والثانوي من خزانات الكتب وإن وجدت في بعضها فكتبها لاتتعدى أن تكون مرتبطة بالبرامج التي تلقن للتلاميذ، بالإضافة إلى هذا خلو الإعلام الوطني المرئي بقناتيه من تخصيص أحياز للتعريف بالمنتوج الثقافي والأدبي والتعليق عليه وتقديمه بغرض قراءته فقط مستثنية بذلك بعض البرامج اليتيمة «مشارف»و»وديوان» التي تعلن عن بعض الإصدارات في آخر حصة. ودعا بودويك التلفزيون المغربي لمواكبة المنتوج الثقافي للعمل على تسويقه على عدد كبير من القراء وفي فترة لاحقة إخضاع هذا المنتوج للقراءة والغربلة قصد التمييز بين جيده ورديئه وبالكشف عن الأصوات الحقيقية المبدعة من الأصوات المدسوسة، الناعقة التي أصبحت وبالا على الأدب وساهمت في العزوف العام وفي الانصراف جملة وتفصيلا عن الكتاب المغربي بحسب بودويك الذي اشترط أيضا على وزارة التربية الوطنية ضرورة إيلائها الاهتمام البالغ بالكتاب المغربي وانتخاب لجنة وطنية من النقاد والمبدعين والمفكرين ورجال التربية بصفة عامة يوكل إليها تتبع مايصدر وماترمي به المطابع في السوق من أجل وضع اليد على النصوص التي تستحق أن تدرس وتنشر، والنصوص التي ينبغي أن تذهب إلى القمامة، كل ذلك باتفاق محكم وانسجام تام مع وزارة الثقافة، رابطا هذه الدعوة بالبرنامج الاستعجالي الذي يروم تأهيل المدرسة العمومية وتجويد تدريسها، وإعادة الاعتبار إلى عنصرها البشري على كافة الأصعدة، معتبرا هذه الفرصة سانحة لكي نهتم بالكتاب ونحمل الناس على القراءة بالتي هي أحسن حتى نسمو بأفكارنا وعقولنا لننخرط في العولمة اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا متزودين بثقافة وطنية متنورة وحداثية. أحمد بن ميمون من جهته قلق على مآل الشعر في زمن الإعراض عنه وركوب قوم على جمعيات وملتقيات للشعر دون أن يكونوا من أهله، يقول في تصريح ل«المساء»: فاجأنا الأستاذ محمد يحيى قاسمي، منذ زمن قريب، بتقديم إحصائية عما نشر من كل أجناس الإبداع الأدبي في المغرب، والمفاجئ فيها ليس عمل الأستاذ قاسمي بالطبع بل ما يتعلق بالشعر في إحصائيته الدقيقة، التي بلغ فيها عدد ما نشر من الشعر بالمغرب، في السنة المنفرطة 62 ديوانا، وهذه الكثرة الملحوظة، هل تدل على تقدم أو تطور في تلقي الشعر مثلا؟ في مجتمع نعرف جميعا ما يعانيه أولا في تحصيل الضروري من حاجياته، قبل أن ينصرف إلى الإشباع الفني والثقافي، الحقيقة أنني سوف أكتفي بتسجيل مفارقة: فمن جهة هناك أزمة قراءة مؤثرة على رواج الكتاب، إذ لم تتأسس عادة القراءة في مجتمعنا بعد، ومن جهة أخرى هناك هذا التهافت على الشعر: كتابة وتنظيمَ ملتقيات، فكما يُقدم على الكتابة الشعرية من لا غريزة أو موهبة شعرية له، يُقدم على خطف الملتقيات الشعرية قوم هم بعيدون عن الشعر. فإذا كان كتاب النثر الشعريّ يهينون النثر كنوع أدبي لا يقل أهمية عن أي إبداع آخر، وقد يهتدون إلى هذه الحقيقة في ما بعد، فإلى ما يسعى المتهافتون على العمل الجمعوي، حين يسيطرون على مواقع كان لا يشغلها في العادة إلا الشعراء في وقت سابق؟ إن هذا نوع من الانزياح غير محمود، لأن الخرق فيه لا ينتج دهشة أو جديدا، ولا يتضمن فائدة أو جدوى، لا للشعر ولا للممارسة الثقافية.