كان يفترض في بلد ترفع جميع أطيافه ونخبه السياسية مشاريع للتقدم المجتمعي أن تكون محاربة الشعوذة من القضايا التي يسجل بصددها أي خلاف، إذ مهما كانت محددات كل مكون مجتمعي في النظر إلى هذه الظاهرة، فإن الثابت أن كل الاعتبارات الدينية والعقلانية والحداثية والديمقراطية تقتضي أول ما تقتضي تحرير العقل والإرادة من الارتهان إلى الخرافة والشعودة. وكان المفترض تبعا لذلك، أن تكون محاربة الشعوذة جزءا من استراتيجية منظومة التربية والتكوين، بل وكل قنوات التأثير والتوجيه وصناعة الثقافة والفكر في هذا البلد، لكن يبدو أن الملاحظة السوسيولوجية لواقع هذه الظاهرة في المغرب وامتداداتها وشبكاتها ومواكبتها للتطور العولمي واختراقها للفضاء الإعلامي والاعتبارات الجديدة التي أصبحت تبرر بها وجودها، تدفع إلى التعاطي مع الظاهرة ليس فقط باعتبارها ظاهرة مجتمعية أنتجها الترهل والفراغ القيمي والتربوي، وإنما كظاهرة لها ارتهانها بالسياسة. ولعل ظاهرة مكي الصخيرات تبقى عينة صالحة في هذا الإطار لتحريك جملة من الأسئلة السياسية بهذا الخصوص للوقوف على طبيعة الدور السياسي الذي تؤديه الشعوذة في المشهد السياسي، والعائد السياسي الذي تجنيه بعض النخب السياسية منه. ولأن الظاهرة، بدأت تعرف في السنوات الأخيرة نموا مطردا، وبدأت تعتمد على آليات عصرية للانتشار، وتتكيف مع منتجات العولمة، وتخترق الفضاء الإعلامي، وتعتمد أساليب حديثة لتسويق منتوجاتها وخدماتها، فقد ارتأينا أن نفتح هذا الملف، ونضع بين يدي القارئ معطيات عن الشبكات التقليدية والعصرية التي تعتمدها، والمبررات القديمة/الجديدة التي تبرر بها الشعوذة وجودها، أو بعبارة أدق تصطاد بها ضحايا وتوسع من دائرة ضحايا جدد. (محاربة العنوسة، البحث عن العمل، معالجة الأمراض، حل الخلافات الزوجية ، كسب مواقع انتخابية، التفوق في عالم المال والأعمال ...)، ونقف أيضا على الاختراق الذي قامت به للفضاء الإعلامي من خلال الإشهار الذي غزا المنابر الصحفية والإعلامية والأبراج في كل المنابر، وأحيانا استضافة بعض الدجالين على القنوات الفضائية بمسميات مختلفة، ناهيك عن الحضور القوي لهذه الظاهرة على مستوى شبكة الأنترنت. ولعل مجرد متابعة الطريقة التي تعاطى بها الإعلام مع ظاهرة مكي الصخيرات تدفع لطرح العديد من الأسئلة حول مسؤولية الإعلام في صناعة الدجالين في المغرب، بل ومسؤولية النخبة السياسية في إعطائه شرعية الوجود والاستمرار، بل وتدفعنا إلى إعادة تعريف الشعوذة من خلال إضافة البعد السياسي في الموضوع. على أن الأهم من التشخيص، وفهم الدراسة، هو بحث مدى خطورتها على الأمن الروحي والأخلاقي للمغاربة، وتهديدها لكل مشاريع التقدم المجتمعية التي تحملها النخب المجتمعية في المغرب، وهو ما يعني أن محاربتها تشترك فيه الدولة ومؤسسات المجتمع المدني على السواء، الدولة من خلال تفعيل منظومتها القانونية ومقاربتها الأمنية، وأيضا من خلال سياسيتها الدينية وجعل مهمة محاربة الشعوذة جزاء من الخطاب التوجيهي للعلماء، ومن خلال سياسيتها الثقافية والإعلامية ومنظومة التربية والتكوين التي تراهن عليها لتحديث المجتمع، والتي يفترض أن يقود تشخيصها إلى اعتبار ظاهرة الشعوذة أحد أهم العوائق التي تمنع مسيرة التحديث في المغرب. ويأتي دور المجتمع المدني، بمؤسساته ونخبه والمؤسسات الإعلامية لتضع نفسها أمام خيار واضح، إما أن تكون مع تحديث المجتمع وهو ما يفرض عليها أن تقطع مع الظاهرة وأن تكون طرفا قويا في محاربتها، وإما أن تعلن براءتها من تحديث المجتمع، وبعدها لا حاجة لها أن تبرر بأي اعتبار من الاعتبارات المهنية حضور بعض منتوجات أو خدمات أو بعض أوجه صناعة ظاهرة الشعوذة في صفحاتها. الصحف الوطنية والترويج للشعوذة.. ماذا وراء الهواتف المعلنة؟ إذا كنت تريد أن تكشف مستقبلك، ويطمئن بالك قبل أن تقدم على خطوة جديدة في حياتك، إذا كنت فتاة عازبة تبحث عن فارس أحلامها، أو متزوجة تعيش مشاكل مع زوجها أو أهله، وإذا كنت على شفا حفرة من الطلاق، ونصحك البعض بالبحث عن شوافة أو عرافة لتطلعك على الغيب الذي لا يعلمه إلا الله، ولتكشف لك عن أعدائك الحقيقيين والوهميين الذين يترصدون لك، فإنك لم تعد بحاجة إلى أن تذهب إلى الدوار الفلاني حيث تشتهر فيه هذه الشوافة أو تلك، ولم تعد بحاجة إلى السفر إلى مراكش لتقصد جامع الفنا حتى تقرأ كفك وحظك وطالعك عبر أوراق اللعب، فعدد من الصحف الوطنية سهلت عليك المهمة وقربت هذه الخدمة إليك، فرغم أنها تدعي الحداثة والقطيعة مع كل ما هو تقليدي، إلا أنها تجتهد في توفير أرقام هاتفية من أجل تقريب الشعوذة والكهانة من المواطنين، وليس عليك سوى التوفر على رصيد في هاتفك وتركيب الرقم، لتجد صوت فتاة على الطرف الآخر يرحب بك، ويعرض عليك خدماته من قراءة الأبراج إلى فتح الكارطة إلى ما يسمى بـالحساب ولك الاختيار، المهم في كل هذا أن تتوفر على رصيد هاتفي كاف، يتحمل الحديث الطويل والمجرجر الذي ستجد نفسك في ثناياه. التجديد دخلت هذا العالم وكشفت عن الألاعيب والخدع التي تسوقها بعض الصحف، والتي تستغل ضعف الناس ومشاكلهم لتستنزف أموالهم المستنزفة أصلا. العنوان فلكيات في البداية اتصلت برقم لركن فلكيات أخذته من إحدى الصحف اليومية، قابلني صوت هاديء لفتاة تبدو في منتصف العقد الثاني من عمرها، سألتني إن كانت هذه أول تجربة لي في الاتصال لمعرفة المستقبل، عندما أجبت بالإيجاب أكدت لي بأنها لن تكون المرة الأخيرة، وطلبت مني أن أختار الخدمة التي أريدها الأبراج، الكارطة، الحساب، بعد أن اخترت قراءة الطالع بورق اللعب، سألتني محدثتي ذات الصوت الهادئ، عن اسمي واسم والدتي ولون بشرتي، طالبة مني أن أسترخي وأنتظر حتى تعزم وأن لا أفعل شيئا سوى الانتظار، بقيت على الخط ثمانية دقائق لا أسمع سوى صوت طرق عبر الهاتف وأصوات نساء يتناهى من بعيد، يتحدثن على ما يبدو مع زبائن آخرين، استمر الصوت الذي يفترض أنه ضمس الكارطة دون مجيب، ويبدو أن صاحبتنا كانت تسعى لإطالة اللقاء أطول مدة ممكنة حتى ترتفع الفاتورة، وبما أنني زبونة تمل بسرعة، فقد وضعت سماعة الهاتف، ثم اتصلت مرة أخرى قائلة إنهم تأخروا في الرد علي، بدت قارئة مستقبلي العتيدة منزعجة، لأنني قطعت الخط، لكنها في النهاية طلبت مني أن أضع يدي على قلبي وأردد ثلاث مرات العبارة التقليدية التي لم تتغير بالرغم من دخول التكنولوجيا على خط التشوافيت، وهي هاقلبي ها تخمامي ها باش آتاني الله، سألتني إن كنت قد أديت الفريضة، وبما أنني جديدة على هذا العالم فإني لم أفهم المقصود من العبارة، كما لم أفهم عبارات أخرى، مما اضطر المرأة لأن تقف مطولا لتشرح المغزى والمعني، وحتى تطيل الحوار، ويبدو أنها كانت تسألني إن كنت متزوجة، وبشرتني غادي يآتيك الله بعلامة الفرح، الأمور ديالك غادي تحسن وأحوالك غادي تغير واخا أنت مقلقة ومغيرة، مالك آش مقلقك ومغيرك، كلام عائم قد ينطبق على الجميع، من منا لا تنتابه حالات قلق، ومن منا لا ينتظر الأفضل في مستقبل الأيام، ولأن السيرة الذاتية التي وضعتها بين يدي قارئة الورق المزعومة تقول بأنني آنسة في مقتبل العمر، فلن يكون سوى أمر العمل والزواج هو الذي يؤرقني ويشغل بالي، شوفي كيبان لي ربي غادي يفرحك إن شاء الله ويفرجها عليك غير الصبر هو كلشي عندك شي زهر وشي فرح منك قريب، شكون هو أحمد ولا سمحمد، وهل يخلو بيت أو حي مغربي من اسم محمد او أحمد، نعم، أعرف هذا الاسم، السيد مربوع القد معجون اللون ماذا تعني، وفسرت لا قصير لا طويل لا أسمر ولا أبيض، ها قد وجدت العريس وحلت أولى مشاكلي الوهمية في خمس دقائق، لتنتقل بي إلى متاهة أخرى، شنو نقولك متبوعة وتابعاك العين بزاف ما كتديري لا تفوسيخة لا تباخيرة علاش؟، ولإقناعي بأن التفوسيخة حل سحري لكل العقد قالت السحر علينا حق والعين علينا حق، الرسول عليه السلاة والسلام تسحر، شكون هي فاطمة، انتهينا من أحمد ومحمد ووصلنا لفاطمة شكون هي فاطمة؟ سألتني، وهذا الاسم أيضا شائع في كل البيوت المغربية، قد تكون صديقتي أو قريبتي أو جارتي، تستطرد لتفتح باب الشكوك بيني وبين صاحبة هذا الاسم إيلا دخلت عندكم للدار كينوض الغيار وكيبان لي شي حاجة تقيلة غادي تدخل بين يديك هاد الايام لاحظتيها؟، ولأني لم ألاحظ هذا الشيء الثقيل الذي أخبرتني به، فقد تطوعت لتقوم هي بذلك طالبة مني الانتظار حتى توزع أوراق اللعب من جديد، لكن قبل ذلك حذرتني قائلة ما تقطعيش ما مزيانش تقطعي فالك، وانبعث صوت الطرق من جديد وأصوات نسائية بعيدة، وصوت من الجهة الأخري يغني أراسي ما داز عليك وباقي، فأنهيت الاتصال. مشاكل كبيرة تحل في ثواني قليلة في اتصالي الثاني برقم هاتفي آخر لنفس الركن فلكيات المنشور بجريدة أخرى، اخترت بطاقة تعريفية أخرى فأنا الآن متزوجة منذ عام، وبعد أن ركبت الرقم أجابني صوت امرأة أخرى في الثلاثينات من العمر كما يبدو، طلبت مني كالعادة اسمي واسم أمي، وحالتي الاجتماعية، لكنها لم تتأخر هذه المرة ولم تتركني أنتظر على الهاتف طويلا، بل إنها بعد نصف دقيقة قالت لي كما قالت لي زميلتها السابقة في الكهانة إن حالي ومزاجي متقلب، حالك كيتغير ما بين الأوقات وما كيبقاش هو هاداك، وكتردي للخاطر ديالك شنو كاين؟، ولأني كما في السي في الذي قدمته متزوجة منذ عام فلن يكون غير موضوع الأطفال هو الذي يشغل بالي، تطوعت السيدة من تلقاء نفسها واقترحت علي دوا العرب وأعطتني وصفة قالت إنها مجربة وإن أختها وصديقتها قمن بها وهما الآن في شهرهما الثاني، سبحان الله، الإثنتان حملتا بعد شهر من الوصفة السحرية، كم هي بارعة، لقد حلت مشكلتي الكبيرة ببساطة، ومنحتني الأمل في ثواني معدودة، وتحول مجرى الحوار، فأصبح أكثر حميمية وكأننا صديقتين، حيث كلمتني عن تجربتها مع اإنجاب وعن تمنياتها لي بالتوفيق، وبالسعادة، وتجاوز المحنة، وبشرتني بأنني هاد الشهر غادي تخرجي تولدي، غادي تفرحي وتولي مركبة وجارا حتى تقهري، وغادي يعطيك ربي رزقك ويعطيك الذرية الصالحة، وغادي تفرحي وتفرحي الناس معاك، ويبدو أنني في المكالمتين معا كنت متبوعة أو أن كل المتصلين الذين يقعون في شراك هذه الشبكات يكتشفون فجأة أنهم متبوعين ، وممسوسين ومطالبين بأن يتفوسخو حتى يتغير مجرى حياتهم، ويحققوا آمالهم وأحلامهم، بعيدا عن عين الحاسدين والحاقدين، ولتؤكد لي اكتشافها قالت بأنني من النوع اللي متبوعة ودمك حلو واللي كانت كتشد فيك، وكتباني لي مشموتة هذه العرافة التي قالت لي إن اسمها مريم، بعد أن تأكدت من أنني أعمل مع المخزن بشرتني بخبر سعيد قد يكون علاوة أو ترقية، ثم سألتني شكون هي القصيرة اللي معاك في الخدمة، مرة أخرى حذرتني من امرأة سيئة في حياتي هي لي بالمرصاد، وفسرت أكثر قولها وأخبرتني بأن معي في العمل امرأتين قصيرتين واحدة مزيانة والأخرى مسيميمة، ومغيارة بالرغم من أنني نية واللي فقلبك على لسانك وكتكولي المسامح كريم، كيف عرفت كل ذلك، وهي لا تعرف عني سوى صوتي، ومرة أخرى بشرتني بأنني سأحصل على شيء أتمناه قد يكون عتبة جديدة وحذرتني عندك شي حاجة ديال العكس فالطريق لا حظتيها؟، خاسك تديري التفوسيخة وتبطلي العكس، لكنها في النهاية خلصت إلا أنه على الرغم من الشرور التي تتهددني عما قريب سيدي ربي غادي يسخر ليك الظروف ويبعد عليك المنزلة، بعد أن مرت 14 دقيقة على الحوار حذرتني من أن المكالمة قد تنقطع في أي لحظة، والسبب كما أكدت يعود لشركة اتصالات المغرب، وطلبت مني أن أعيد الاتصال وأسأل عن اسمها بالذات لنكمل حوارنا الخاص. شبكات تروج الكهانة شركات الاتصالات، وصحف وطنية، وشابات مغربيات يبحثن عن فرصة عمل، وأجانب يعيشون في المغرب، كل هؤلاء شركاء في شبكة تروج لـالكهانة وتستغل النساء والرجال القلقين والباحثين عن الأمل. يعبثون بنفوس المتصلين القلقين، يزرعون الشكوك بين الأقارب والأصدقاء، ويوهمون كل متصل بأنه مسحور ليدخل في دوامة جديدة باحثا عن حل يبطل هذا السحر وهذه العين، ليصبح زبونا لدى شبكة أخرى هي العطارون. في كل الاتصالات مع العرافات عبر الهاتف كانت العرافة تتحدث بسرعة بأسلوب مرموز، وبكلمات لا يفهمها الإنسان العادي، ثم تنتقل إلى مرحلة الشرح والتفسير وطرح أسئلة على المتصل، وفي أحيان كثيرة تعيد الجملة التي سبق وأن قالتها منذ دقيقتين، وذلك حتى لا ينقطع خط التواصل بيننا، ويتمحور الكلام في الغالب عن تحذير من أشرار مترصدين، وبين فرحة قريبة وحلم قريب المنال، فإن كنت عازبة فإنك ستتزوجين قريبا وإن كانت لديك مشاكل مع زوجك فما عليك سوى أن تفوسخيه وإذا كنت تنظرين طفلا فـدوا العرب هو الحل، وفي الغالب فإن المتصل هو الذي يجيب ويعطيها كل المعلومات عن نفسه دون أن يشعر لأن الحوار يصبح شخصيا وحميميا ويبدو وكأنك تتحدث مع قريب أو شخص عزيز.