ثمة ما يدعو إلى التساؤل الجدي حول منهجية الحكومة في التعامل مع بعض الملفات، إذ الطبيعي أن يكون الهاجس السياسي حاضرا في التدبير والمقاربة، لا سيما إن تعلق الأمر بملفات اجتماعية ساخنة في حجم ملف مدونة السير، فالطبيعي أن تتعامل الحكومة بنوع من الحكمة مع هذا الملف الذي سبق لها أن ارتكبت أخطاء فادحة في طريقة التعامل معه في صيف 2007 ، أي قبيل انتخابات السابع من شتنبر بشهور، إذ تم وضع هذه المدونة من غير استشارة ولا نقاش مع مختلف الفاعلين في القطاع، ولولا الخسائر المهولة التي تكبدها الاقتصاد المغربي من جراء الإضرابات الاحتجاجية المستمرة والمنتظمة التي عرفها قطاع النقل في المغرب، ولولا قرب الاستحقاق الانتخابي (الانتخابات البرلمانية) لما أجبرت الحكومة في آخر المطاف على سحب المدونة. السؤال الجدي الذي يطرح اليوم هو ما الذي تغير بين 2007 و 2009؟ تشابه كبير في الظرفية السياسية، إذ لا يفصلنا عن الاستحقاقات الجماعية إلا بضع شهور، والإضرابات الاحتجاجية هي قاب قوسين من أن تشل الاقتصاد الوطني، تماما كما كان الأمر في احتجاجات 2007, والحوار مع المهنيين والنقابات لا زال يتأطر بنفس المنطق الفوقي الذي تؤطر به الحكومة موضوع الحوار الاجتماعي برمته. الفارقان البسيطان المسجلان بين السياقين، هو أن البرلمان صادق على مدونة السير بعد نقاش طويل في مقتضياتها، وبعد إجراء تعديلات وازنة فيها، والمجلس الدستوري أصدر قرارا يطعن في دستورية إحدى مقتضيات القانون المالي مما له علاقة بمدونة السير. لكن، في المقابل، عرفت الاحتجاجات الحالية التي انطلقت في قطاع النقل تدرجا مطردا بدأ بسيارات الأجرة وانتهى إلى الشاحنات الكبرى، وشكل ضربة قوية للاقتصاد الوطني، وشل حركة المرور، وأشعل لهيب الأسعار في الأسواق. أمس، استكمل الإضراب يومه السابع، الجديد الذي تسجل هو تأجيل مجلس المستشارين مناقشة مدونة السير، وذلك في انتظار تلقي كافة الملاحظات التي سيتقدم بها أرباب النقل ومهنيو القطاع. الغريب في الأمر أن وزير النقل والتجهيز السيد كريم غلاب، لم يقتنع للمرة الثانية بضرورة الانفتاح لسماع اقتراحات أرباب النقل ومهنيي القطاع حتى أوشك الإضراب أن يمس الاقتصاد المغربي بعد ضرب القدرة الشرائية للمواطنين. فهل كان من الضروري للسيد كريم غلاب، الذي ينوي الترشح في الانتخابات الجماعية للعمودية في الدارالبيضاء، أن يتأخر في الدعوة إلى عقد اجتماعات على مستوى مديرية النقل الطرقي بالرباط ومختلف الولايات؛ لتلقي هذه الاقتراحات وتجميعها حتى لاتشل حركة السير، ويعجز الموظفون عن الالتحاق بعملهم، وتشتعل الأسعار ويخسر الاقتصاد المغربي، وتكتمل بذلك الأزمة الاقتصادية في وجهيها الداخلية بسبب الإضرابات، والخارجية بسبب تداعيات الأزمة الاقتصادية العالمية؟ والأغرب من ذلك، أن تأجيل مناقشة مدونة السير جاء معللا أيضا بمسألة الوضعية الحالية التي تملي التريث وبمسألة مصلحة البلاد ومصلحة المواطنين، فهل كانت هذه الاعتبارات غائبة عن الحكومة وعن السيد غلاب الذي يحرص في كل تصريحاته على إبداء نوع من الإصرار على موقفه في تغييب كامل لأرباب النقل ومنهيي القطاع؟ أحيانا يصاب المتابع للشأن الحكومي في المغرب بالعجز عن قراءة طريقة التدبير الحكومي لبعض الملفات، فلا الوضعية الاقتصادية تسمح بوقوع إضراب في حجم الإضراب الذي نفذه أرباب النقل ومهنيو القطاع، ولا الظرفية الانتخابية تبرر للحكومة إصرارها على طرح المدونة للمناقشة، ولا القراءة الواعية لإضرابات 2007 في قطاع النقل احتجاجا على نفس المدونة؛ يسوغ للحكومة أن تقدم على ما أقدمت عليه. الحاصل من كل هذا أن الحكومة تفتقد القدرة على التدبير السياسي للملفات الاجتماعية، وتفتقد الحس في قراءة الظرفية السياسية، ولا تضع في الحسبان الوضعية الاقتصادية الدقيقة التي تمر بها البلد، ولا تستفيد ولا تعتبر من دروس الماضي القريب.