تسود الفكر الإسلامي المعاصر، خاصة فكر الحركات الإسلامية، عقدة المشيخة المعرفية، حيث إن ما يكتبه الأمير أو المرشد هو عند هذه الحركات، وفي لاوعيها، الحق المطلق الذي لا ينبغي أن يُنتقد أو يناقش. وهذه العقدة المرضية تضبط الكثير من المواقف الثقافية والسياسية المتداولة في الوسط الحركي الإسلامي راهنا وكذا في الوسط السياسي العربي عامة. فما زلنا نعيش عقدة العصمة على نموذجها الاستبدادي سواء في بعض التنظيمات الإسلامية أو لدى بعض الجمعيات والأحزاب ذات التوجه العلماني. وبدل تكوين الأعضاء على استشعار الثقة في الذات والتحفيز على التفكير النقدي، نصوغها بمنطق الطاعة والانضباط، ومن ثَمَّ لم نملك بذلك سوى أجيال اعتادت أن تقاد كما تقاد البعير! إن كثيرا من أزمات العالم العربي ونكساته ونكباته ترجع إلى ديكتاتورية القائد الملهم وانفراده بالقرار، ويعود الكثير من إخفاقات العمل الإسلامي إلى استبداد القائد وتبعية الأعضاء من دون شورى ونقد. واليوم مع التحولات العميقة التي تمس نظم التفكير والعيش، لابد من تربية خاصة. وأرى في تيار اليقظة الإسلامية بحكم مرجعيته الدينية مكمن الخير والصلاح، ولذا لا بد من تصويب ونقد مخلص لإعداده حتى يكون في مستوى تحديات الغد ومطالبه، ولا يمكن تحقيق ذلك من دون تكوين الأعضاء نفسيا وعقليا على نحو يجعلهم كائنات تفكر لا أدوات تنفيذ. لا أريد الإتيان بأمثلة وهي كثيرة لا قليلة حتى لا يُحمل هذا المقال على غير محمله، ويفقد هدفه النقدي الشمولي، وتوجهه إلى عامة الإسلاميين، وغيرهم من الفاعلين السياسيين، لأن تخصيص النقد بحركة معينة، وحزب محدد، قد يفهم أنه المقصود بالنقد وغيره المستثنى، ولو عدنا إلى بداية القرن الرابع عشر الهجري فسنلقى عقدة العصمة الفكرية واضحة التأثير في المناخ الثقافي السائد وقتئذ، حيث كانت منهجية التفكير المتناقلة من أزمنة التأخر السابقة مختزلة في أسلوب الحواشي وشروح المتون، لأن طاقة العقل قد تعطلت، فلم يبق إلا استخدام طاقة الذاكرة والحفظ، مما أشاع الجمود في بنية المجتمع بجانبيها الذهني والمادي على حد سواء، حتى أصبحت بعض كتب القدماء وثنا يلتف حوله الفكر ويدور إعجابا وتقديسا. وعندما ننتقل إلى استقراء واقعنا المعاصر نلقى عقدة العصمة الفكرية مستمرة أيضاً، وإن تغلفت بلباس جديد أو تلونت بلون مختلف، فهي في جوهرها ظلت هي ذاتها، كعنوان على العطالة والجمود: ففي الوسط التغريبي والعلماني نلقى النخبة المثقفة مجرد أتباع للعقل الغربي ورموزه، يكررون إنتاجه وينسبونه إلى أنفسهم من دون أدنى احتشام! وفي وسطنا الإسلامي الحركي يتسمى القائد بالأمير وتدور كتيباته وتشيع، وتُقرأ بإعجاب كبير. قلت: لا أريد الإتيان بأمثلة، ولكن سأحاول أن أجسد معنى العصمة لنفهم خصائصها وملامحها: يحكي الكاتب السوداني جعفر شيخ إدريس عن جماعة صوفية سودانية ذات تصور حلولي أن زعيمها أعلن يوما أنه قد وصل ولذلك لم يعد مكلفا مثل باقي خلق الله بأعمال الصلاة والصيام والحج وغيرها من الشعائر والفرائض التي لم يستثن من التكليف بها حتى الأنبياء! وذات يوم يبدو أن أحد الأتباع استبد به الطموح فقال لهم: عندي بشرى أنني قد وصلت أنا أيضاً ليلة أمس، فلما اعترض عليه بقية الأتباع أسكتهم بقوله: هل وصلتم أنتم؟ فقالوا: لا. قال: إذن لا تحاجُّوني في مقام لم تذوقوه، ولا تعرفوا عنه شيئا. فما كان منهم إلا أن تركوا أمر مناقشته للزعيم الأوحد الواصل الأول، فكانت النتيجة أن فصله من الجماعة، لأن الجماعة لا تحتمل واصلين. ولست أقصد بإيراد هذا المثال أن عقدة العصمة، لا يعرفها إلا أمثال هذه الحركات الصوفية فقط، بل أعتقد أنها متداولة في حركات وتنظيمات أخرى. ومقياس ذلك: الاستهانة بإلزامية الشورى في اتخاذ قراراتها. واعتماد رؤى القائد والأمير اعتماد التسليم والتقليد. وهذا هو معنى العصمة الذي لا بد من انتقاده وتجاوزه، إذ نريد يقظة إسلامية مبنية على أساس الاجتهاد وتحفيز التفكير وإشاعة الشورى كخلق وكقاعدة قانونية أيضاً، تضبط العلاقة بين الأفراد والمؤسسات والقيادات.