كثيرة هي الأنظمة الإسلامية والعربية التي تسير ضد إرادات شعوبها للأسف الشديد، (برهان غليون: محنة الأمة العربية-الدولة ضد الأمة)، إلا أن الرأي العام الإسلامي في بعده العاطفي على الأقل، قد تحرك لمساندة القضية الفلسطينية، وللتنديد بالهجمة الصهيونية الإجرامية على الشعب الفلسطيني، وهو تحرك مكن من رفع معنويات الكفاح والصمود الفلسطينيين. فعندما نتابع فضائية فلسطين مثلا، نحس بتأثير المظاهرات التي تشد من عضدهم. فلا شيء يمكنه أن يفت في قوة الفلسطينيين ومقاومتهم مثل صمت الشارع الإسلامي. وفي هذا الصدد نود أن ننبه إلى الخطاب العدمي والإحباطي التضليلي الذي تمارسه بعض الجهات، عن حسن نية أو عن سوء نية، عندما تدعي أن الشعب الفلسطيني ليس محتاجا للمظاهرات، فهي ليست خبزا يؤكل و لا رصاصا يطلق على العدو و لا دواء يداوي الجروح و لا مأوى يأوي إليه المشردون الذين هدم شارون دورهم بالجرافات. ذلك أن الشعوب والأمم لا تعيش بالماديات فحسب، و إنما يحركها الجانب المعنوي، خصوصا عندما يكون هناك انعدام مطلق للتكافؤ و التوازن في المجال المادي. و لو كانت الأمور مادية محضة، لما كانت هناك مقاومة فلسطينية تذكر، و لو كانت الأمور تحسب بحساب الماديات لكانت دولة لبنان هي أكثر الدول انبطاحا للعدو الصهيوني، نظرا للحدود الجغرافية المشتركة، و صغر البلد، و ضعف موارده، وخروجه من حرب طاحنة مزقته. لكن واقع الحال أن لبنان أقوى بلد، في بلدان الطوق، تماسكا في موقفه السياسي ضد إسرائيل، وذلك من خلال إصراره على تحرير أرضه بالسلاح ودعمه المعنوي والسياسي لجهاد حزب الله ورفضه للأطروحة الصهيونية-الأميركية بتجريم هذا الحزب وتجريده من الأسلحة، كما فعلت العديد من الأنظمة العربية مع الحركات الإسلامية، بحجة مكافحة الإرهاب. فميزان الإرادات أرجح من ميزان القوى. لعب تحرك الشارع الإسلامي أيضا دورا مهما في ردع المطبعين مع العدو، وتقزيم حلفائه في المنطقة، كما استطاع أن يحرك ضمير الرأي العام العالمي، لأن المظاهرات التي خرجت في كل أنحاء العالم كانت من جهة، بتأثير بشاعة الإجرام الصهيوني، من جهة أكبر وأوسع، بتأثير حركة الشعوب الإسلامية، فلولا تحرك الجاليات الإسلامية للغرب، كيف كان السبيل إلى ضمير الشارع الغربي الذي تهيمن عليه وسائل الإعلام الصهيوني وتكيف فكره وتخترق حتى عقيدته المسيحية عن طريق صهينة المذهب البروتستاني اليميني المتطرف. و إلا من أين للشارع الغربي أن يعي موقفا مخالفا و مفارقا للموقف الإسرائيلي؟. غير أن قوة الشارع الإسلامي ودرجات تأثيره قد تضعف بفعل وضعية التدافع السياسي والمذهبي بين القوى السياسية المنظمة فيه والمؤطرة له. فبقدر ما يتوفر حد أدنى من النضج و التجرد للقضية، يدفع ذلك إلى الاهتمام بها بعيدا عن اللافتات والألوان. ينبغي أن يتحرك الشارع الإسلامي - و بدءا بأرض فلسطين - موحد الشعارات والشارات، ليرمز بذلك إلى معاني التجرد والإخلاص و الذوبان في القضية، وهذه هي الرسالة الوحيدة التي يفهمها العدو ومن وراءه من الحلفاء، و من معه من الأعوان المحليين. أما الحرص الأخرق على ظهور جهة أو تنظيم بعينه، وما يتبع ذلك من سياسة التدافع غير الإيجابي، واستعراض العضلات، فيتطور إلى نسيان القضية الأصل، والسعي للغمز من قناة الجهات الأخرى بوصفها متخاذلة أو مقصرة، و تصبح القضية مطية للتيارات السياسية والإيديولوجيات المتنافرة، فنفتقد الإخلاص، ويشمت فينا العدو و ييأس الصديق. لنتخيل مظاهرة هادرة في أحد شوارع الرباط أو الرياض أو إسلام أباد، في كتلة متراصة واحدة، ترفع الشعارات في مواجهة العدوان الإسرائيلي أو تؤكد موقفها المبدئي في الإلتحام بالقضية بطريقة غير مشروطة، و بعيدا عن الخلفيات الإيديولوجية، لن يبقى منها في المخيال الشعبي و في ضمير الأمة سوى هذا الموج الهادر الهلامي الذي لا وجه إيديولوجي له و لا لافتة تنظيمية له، و هذا هو أقوى و أجمل ما في المسيرات الشعبية الهادرة. إن الصلاة تعلمنا بأن الله لا ينظر إلى الصف الأعوج، و أننا إن اختلفت صفوفنا اختلفت قلوبنا، كما قال الصادق المصدوق (ص)، و لا خير في صلاة لا تعلمنا الحضارة، و لا نستحضر معانيها في كل سلوكاتنا الاجتماعية و السياسية. يوجد في الشارع الإسلامي اليوم جاهزية عالية للتعاطي مع قضايا الأمة، خصوصا القضية الفلسطينية. والمهم الآن هو كيف يمكننا أن نؤطر هذه الجاهزية ونخرج بها من الاندفاعية نحو العقلانية والوعي و الاتزان في التعاطي مع القضايا الإسلامية. فاندفاع الجماهير يفتر مع مرور الزمن، و هو شيء طبيعي في نفسية الشعوب، و الاندفاع في حد ذاته مؤشر على العاطفية و المزاجية، غير أنه مطلوب في حد ذاته. ففي قضية مأساوية كالقضية الفلسطينية، ينبغي أن تستمر الجماهير في الانقذاف إلى الشارع يوميا، وينبغي أن يكون صبيب تلك الاندفاعات قويا مهما اقتصر على حمولة محدودة و عابرة و لحظية كالحمولة العاطفية. غير أن أفول جذوة الجماهير ليست دائما ذاتية، فالأنظمة تلعب دورا كبيرا في صب الماء على هذه الجذوة بحالات من القمع و المحاكمة و الاضطهاد و التضييق. كما يلعب الإعلام الرسمي نوعا من التغطية على هذه الجذوات المتوقدة. في حين يصعب على هذه الجذوات أن تحظى بتغطية دولية، لأن مثل هذه التغطية تعبأ و تهيأ في موعد محدد و من أجل عمل ضخم مثل مسيرة الرباط المليونية منذ سنتين. لكننا مع ذلك مدعوون جميعا اليوم إلى التفكير في عمل مؤسس يحول هذه الاندفاعات والجاهزية الجماهيرية إلى نوع من الاستمرارية تبني الوعي وتؤسس الذاكرة و تتحول إلى ضغط فعلي على الأنظمة. فأنظمتنا تتجاهلنا و تخضع لأوامر أميركا و صندوق النقد الدولي، و هي أنظمة مبنية بنيويا ضد الأهداف القومية والوطنية والدينية للأمة، لكنها ليست في نهاية المطاف، مطلقة القدرة على الصمود والتحصن من آثار الجماهير. فهذه الأنظمة تحتاج، ولو من باب التكتيك، إلى الاعتذار للسادة الآمرين بضغط الجماهير. ذلك أن عمق الجماهير هو العمق الاستراتيجي الذي ينبغي أن ترتد إليه الأنظمة لممارسة الممانعة تجاه الإكراهات الراهنة، و أظهرها إكراهات الغطرسة الأمريكية. لتحقيق هدف ممارسة الشارع للضغط السياسي الشعبي على الأنظمة لابد من المراهنة على الاستمرارية، فأنظمتنا إذا ما استطعنا محاصرتها بعمل ممنهج و منظم، يستعصي على الإذابة و يصمد في وجه القمع ووسائل التفتيت و الإغراء و شراء الذمم، فبإمكاننا أن نصل إلى نتائج يمكنها أن تغير، و لو جزئيا من خيارات هذه الأنظمة و تجعلها، بالتالي، أمام ضغط من جانبين: داخلي و خارجي، فيحصل على الأقل نوع من التوازن، لتجد نفسها مضطرة إلى انتهاج سياسة المناورة في تعاطيها مع القوتين الضاغطتين، وللحصول على ذلك لابد من مأسسة الشارع الإسلامي عن طريق أساليب متحضرة وديموقراطية وأدوات عمل فاعلة، و على رأسها الأحزاب و النقابات و الجمعيات. وكل هذا مرتبط بمجال الحريات المتاحة في هذا البلد أو ذاك، وكلما كانت مساحة الحريات أوسع كلما اتسع مجال تأثير القوى المدنية المؤطرة للشارع وتمكنت من أن تفرض صوتها وتجعله عاملا لابد من الرجوع إليه في حسبان الأنظمة. ونعتقد أن قضايانا الإسلامية، مثل القضية الفلسطينية، يمكنها أن تلعب دورا كبيرا في بلورة الوعي بأهمية الشارع و دوره المركزي في صياغة القرار السياسي العام للأمة. فكثير من الأحزاب السياسية والنقابات والجمعيات يعتبر أن الانشغال بالقضية الفلسطينية هو هروب من مواجهة تحديات القضايا الداخلية وفرار من التفكير في إيجاد الحلول الناجعة لها، وكأن هناك تعارضا بين الاهتمام المحلي و الإسلامي، وكأن المشكلة الفلسطينية ليست مشكلة محلية في حين أن المخاطر التي يمثلها الاختراق الصهيوني لكل بلد وانعكاساته على شعبنا سياسيا و غذائيا و صحيا و ديموغرافيا من الخطورة بمكان. لكن الوعي الاستراتيجي بقضية فلسطين غائب عند العديد من الأحزاب والنقابات والجمعيات، وهي التي من المفروض أن تؤطر الرأي العام. بل وكثير من هذه الجهات تعيش حالات من الأنانية الذاتية والانتكاسة والانغلاق على الشأن المحلي والوطني، مما يمنعها من الخروج إلى الأمة وإلى البعد الإسلامي.