من العبث الحديث عن أي شكل من أشكال الفوضى والانفلات في الضفة الغربية وقطاع غزة بعيداً عن هواجس الاحتلال وخياراته وحساباته الآنية والمستقبلية، ذلك أن من السذاجة بمكان الحديث عن فساد في السلطة كسبب لما جرى ويجري، لأنه لو صح ذلك لما توقفت الفوضى والانفلات الأمني منذ عام 1994، يوم أن تحول المناضلون القدامى إلى تجار وسماسرة للشركات الإسرائيلية، يبيعون ويشترون على حساب الفلسطينيين، وهي حكايات كانت الدوائر الإسرائيلية تعمد إلى بثها وترويجها كلما حصل تلكؤ من طرف السلطة في المفاوضات بهدف الضغط عليها من أجل المزيد من التنازلات. لا يعني ذلك بالطبع تبرئة للرجل الذي خطف أول أمس، والذي تعرف غزة بطولها وعرضها حكاياته ومغامراته التي تزكم الأنوف وتقشعر لها الأبدان، وقد كان أولى بالرئيس الفلسطيني أن يقصي الرجل إلى غير رجعة، لكنه كعادته أعاده بعد فترة من الإقصاء، ولذات السبب المعروف، أي الولاء السياسي الذي يغفر في عرف حركة فتح ومنظمة التحرير وقائدها لأي أحد ما تقدم من ذنبه مهما كان حجمه وطبيعته. الولاء السياسي هو الأصل، أما الفساد المالي والإداري، وحتى اللعب السابق على حبال السياسة لحساب الآخرين في الداخل والخارج، فكل ذلك يمكن أن يغفر إذا عاد المعني إلى الحضن الدافيء الذي لا يطرد العائدين أياً كان سجلهم إذا ثبت أنهم قد تابوا وأنابوا!! على أن ذلك كله لا يعني أن رافعي شعار الإصلاح هذه الأيام هم الأتقياء الأنقياء الذين يتحسسون هموم شعبهم ويعيشون معاناته ووجعه، ويكفي أن كبيرهم محمد دحلان الذي يعرف الجميع سيرته وأهله في دوائر الفقر، قد اشترى أكبر فيلا في قطاع غزة من تلك التي لم يكن يحلم برؤيتها، فضلاً عن دخولها يوم بدأ مناضلاً بريئاً في حواري أحد المخيمات الغزاوية. لم يكن ذلك هو كل شيء، فقد منحت له الملايين ليشتري الأتباع بوصفه الوريث الطبيعي للرئيس الفلسطيني، وهاهو يجري الانتخابات داخل حركة فتح على إيقاع المنح والرواتب والرشاوى التي تتحول بدورها إلى أصوات انتخابية في حركة عدادها الأساسي موظفون شعار أكثرهم "ثورة حتى آخر الشهر". وهي انتخابات أجريت رغم أنف الرئيس الذي رفض نتائجها وهو الذي يعرف تماماً كيف تشترى الأصوات. ما يجري من ألفه إلى يائه ليس بريئاً وهو أكبر من قصص فتح والمنظمة وحتى السلطة. إنه الرهان على حرف خيار الفلسطينيين نحو القبول بواقع الاحتلال وخياراته. ولو وافق ياسر عرفات على دفع الاستحقاقات اللازمة لما كان لأحد أن يتمرد عليه حتى لو وضع أسوأ الفاسدين في أرفع الأمكنة كما حصل مع ذات الرجل المستهدف (غازي الجبالي) من قبل حين كانت مهمته مطاردة أشرف الرجال وحلق لحاهم وقمع المقاومة الفلسطينية لحساب برنامج أوسلو الذي عوّل عليه الإسرائيليون كمحطة لاختراق المنطقة بعد إخضاع الفلسطينيين ومن ورائهم الوضع العربي. الخائفون على السلطة اليوم ليسو خائفين على الفلسطينيين من الفوضى، بل إنهم يخشون من نهاية تلك السلطة وإعادة توريط الاحتلال من جديد على نحو يتحول فيه الفلسطينيون إلى الثورة الشاملة على الاحتلال، لأنهم أكثر عظمة من أن يأكلوا بعضهم بعضاً، وهم الذين يزدادون تكافلاً والتحاماً ببعضهم البعض في مواجهة العدو. لا يعني ذلك أن مواجهة الفاسدين من أمثال المذكور مسألة مؤجلة، لكن التركيز عليها ينبغي أن يأتي من أجل تعزيز الصف الوطني في مواجهة الاحتلال وليس من أجل الاستجابة لخياراته في فرض الاستسلام والتراجع على الفلسطينيين. بقي أن نؤكد أننا لا نحتاج إلى كثير ذكاء في تحديد خياراتنا، فعندما يهاجم عرفات من قبل الإسرائيليين وأعوانهم من الفلسطينيين والعرب فيجب أن نعلم أنه لا يدفع المطلوب سياسياً وهو الذي لم يطالب إلا ب 22% من فلسطين. هل هي معادلة معقدة؟! ياسر الزعاترة - كاتب فلسطيني