بحلول العاشر من ديسمبر 2008 تكون قد مرت ستون سنة على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان؛. ففي هذا التاريخ من عام 1948 أصدرت الأممالمتحدة وثيقة ذات قيمة كونية، سعت من خلالها إلى تأصيل ثقافة جديدة لتأكيد كرامة الإنسان وإشاعة فكرة أن الناس ولدوا أحراراً ومتساوين في الحقوق والواجبات، ولعل ذلك ما شددت عليه المادة الأولى من الإعلان، بقولها +يولد جميع الناس أحراراً متساوين في الكرامة والحقوق وقد وهبوا عقلاً وضميراً وعليهم أن يعامل بعضهم بعضاً بروح الإخاء؛... بيد أن مرور ستة عقود على صدور هذه الوثيقة لا يؤكد حصول الكمال في توطين قيمة حقوق الإنسان وجعلها ثقافة مشتركة بين عموم البشرية. فبحسب التقرير الأخير لمنظمة العفو الدولية (2008)، ما زال الناس في 81 بلداً يعانون من التعذيب وسوء المعاملة، كما يواجهون المحاكمات الجائرة في أربع وخمسين دولة، ويخافون الجهر بآرائهم ومعتقداتهم في سبعة وسبعين بلداً.. ومع كل ذلك، يمكن الإقرار بحصول تقدم واضح في مسيرة حقوق الإنسان وأفق تحولها إلى ثقافة كونية مشتركة. لم يكن المغرب، الذي التحق بالأممالمتحدة مباشرة بعد استقلاله عام 1956, بعيداً عن وقع الحدث والنقاشات التي واكبته دوليا، بل إن الذكرى كانت مناسبة لإبراز المجهودات التي قام بها في هذا الإطار، والصعوبات التي تنتظره لتأكيد المكتسبات وتوطينها في ثقافة الدولة والمجتمع. فقد مرت حقوق الإنسان بحقبة عصيبة طالت انتهاكاتها الجسيمة الأفراد والجماعات، الحواضر والبوادي، وتحول المغرب نتيجة لذلك موضوعاً بارزاً في متن التقارير الدولية ذات الصلة. بيد أن المغرب، وهذه ميزة تستوجب الموضوعيةُ الإشارة إليها، قرّر مع العقد الأخير من القرن الماضي التصالح مع ذاته، بطي صفحة الانتهاكات، والنظر إلى المستقبل بقدر كبير من الإرادة والإصرار، وقد لعبت المنظمات الحقوقية، ونشطاء حقوق الإنسان، والأحزاب والتنظيمات السياسية أدواراً مركزية في توفير شروط هذا الانعطاف وتيسير إمكانياته على صعيد الممارسة. يُذكر أن في سياق الصراع حول السلطة وأسس تنظيم ممارستها والتداول عليها، خضعت علاقة الدولة بالمجتمع لمنطق الإقصاء والإقصاء المتبادل، ولأن ثقافة الاختلاف وآليات إدارته وترشيده كانت ضعيفة، فقد لجأت الدولة، باعتبارها مالكة وسائل العنف المشروع وغير المشروع، إلى التضييق على حرية التعبير، ولجم المعارضات بكل أشكالها، والتنكيل بكل من امتلك جرأة عدم الانصياع لسلطانها بغير إقناع، فكانت نتيجة هذا الوضع أكثر من ثلاثين سنة من الانتهاكات الجسيمة، ترتبت عليها سلسلة من المضاعفات طالت معنويات المواطنين وخدَشت كرامتهم، كما مسّت أوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية، وقد حدث ذلك كله في سياق داخلي موسوم بضعف المؤسسات الدستورية، وتبعية القضاء وعدم استقلاله، وانحسار حرية الإعلام بكل أشكاله وتعبيراته، وفي ظرفية عالمية ميزت بالاستقطاب الدولي والاصطفاف وراء منظومتين متناحرتين أيديولوجياً. ولفرط قساوة هذه الحقبة وتأثيرها السلبي العميق دأب المغاربة على تسميتها سنوات الرصاص؛، في إشارة إلى سيادة لغة القوة والعنف على مجموع مراحلها. بيد أن المغرب أصرّ، مع سقوط المنظومة الاشتراكية ونهاية الحرب الباردة، على تدشين صفحة جديدة في مجال حقوق الإنسان، تميزت أولاً بالاعتراف بكونية هذه الأخيرة وترسيم انتسابه إلى المرجعية الدولية في هذا المجال، حين نص صراحة في ديباجة الدستور المعدل عام 1992 على تمسكه بحقوق الإنسان كما هو متعارف عليها دولياً، وقبل ذلك أسس +المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان؛ (1991)، ليشرع في إدخال سلسلة من التعديلات على سلّة من التشريعات والقوانين ذات العلاقة المباشرة بحقوق الإنسان، من قبيل إحداث المحاكم الإدارية التي تنظر في المنازعات التي تكون الدولة طرفا فيها (1994)، وتنقيح وتعديل القوانين الجنائية، وإصلاح إدارة السجون وأنسنة ظروفها، وتطوير قوانين الحريات العامة وتوسيع نطاق تطبيقها. ولعل الخطوة الأهم في ركب الإصلاحات التي طالت منظومة حقوق الإنسان، إحداث هيئة الإنصاف والمصالحة؛ (2005)، التي أسندت إليها مهمة النظر في الانتهاكات الجسيمة التي مست حقوق الإنسان في الفترة الممتدة من 1956 وحتى 1999, وتقدير التعويضات المادية المناسبة لجبر الأضرار الناجمة عنها لدى المعنيين بها مباشرة أو ذويهم، والعمل على إعادة إدماج ضحايا هذه المرحلة في النسيج الاقتصادي والاجتماعي والثقافي المغربي. لقد كان لكاتب هذا المقال مساهمة في بعض أدبيات الهيئة المومأ إليها أعلاه، كما شارك في مجمل الندوات واللقاءات الحوارية التي نُظمت في هذا المجال، وحضر بعض الجلسات العمومية المبثوثة عبر وسائل الإعلام المرئية والمسموعة التي عبر فيها ضحايا الانتهاكات عن المآسي التي لحقت بهم وبذويهم خلال سنوات الرصاص. فمن هذا الموقع بالذات، يمكن القول إن المغرب قطع أشواطاً مهمة في إعادة صياغة علاقته بقضية حقوق الإنسان، والتصالح مع القيم المستبطَنة فيها، وفي صدارتها حق الإنسان في الجهر بما يفكر فيه بحرية، وحقه في الدفاع عن كرامته، وتطلعه لأن يتساوى في الاستفادة من خيرات بلده مع بني جلده. بيد أن المغرب يحتاج إلى عمل جاد وعميق لتحويل التشريعات والقوانين، وهي في كل الأحوال مهمة وضرورية، إلى ثقافة مشتركة ناظِمة لعلاقة الدولة بالمجتمع، ومؤطرة لعلاقة مكونات المجتمع فيما بينها. فقد أثبتت التجربة أن القانون وحده لا يكفي ليكون فعالاً وفاعلاً في التغيير إذا لم تتوفر له ثقافة التغيير، أي العقلية الجماعية الحاضِنة له والمدافعة عن استمراره. لذلك، إذا كانت ستينية حقوق الإنسان مناسبة لاستعراض منجزات المغرب في مضمار حقوق الإنسان، وهي كثيرة، فمن الأهمية بمكان أن تكون فرصة للحديث عن الثغرات والفجوات التي كشفت عنها الممارسة، والاستراتيجيات الممكنة لتحويل احترام حقوق الإنسان بكل مضامينها إلى ثقافة مجتمعية يتمسك الجميع بها، ويدافع الكل، دولة ومجتمعاً، عن توطينها في الممارسة.. إنه عنوان التحدي الذي يُسائل المغاربة ويسترعي انتباه المغرب اليوم وغداً.