تعلّمنا في زمن الطلب والتحصيل، أن الحقوق تقابلها الواجبات، فللإنسان حقوقٌ وعليه واجبات، وإذا كانت الحقوق مرعية وواجبة النفاذ، فإن الواجبات مرعية أيضاً والإنسان ملزم بأدائها مطلوب منه القيام بها. ومَن يطلب حقوقه ولا يؤدي واجباته، يخلّ بالمعادلة التي تقوم على الربط بين الحقوق والواجبات. ومما أذكره من قراءاتي الأولى في زمن اليفاعة، كتابٌ قيّمٌ بعنوان (الأخلاق والواجبات)، لمؤلفه العالم الشامي من أصل جزائري الشيخ عبد القادر المغربي. فقد كان هذا الكتاب الذي نشر في أواخر القرن التاسع عشر في دمشق، رائجاً في الأوساط الثقافية والأدبية في النصف الأول من القرن العشرين. ثم اختفى الكتاب ولم أعد أرى له أثراً في المكتبات، والنسخة التي قرأتها كانت من محتويات مكتبة معهد مولاي الحسن للأبحاث في تطوان. ففي هذا الكتاب بيان للواجبات التي على الإنسان أداؤها تجاه نفسه ودائرته الضيّقة والواسعة. وإذا كان ما من حق من حقوق الإنسان إلا ويقابله واجبٌ، فإن القيام بالواجب هو أيضا حقٌ من تلك الحقوق. ولذلك نجد أن منظومة الحقوق تتكامل مع منظومة الواجبات، فإذا انعدم هذا التكامل، أو اهتزَّ لقيامه على أسس هشة، اهتزت أيضاً مشروعية تلك الحقوق. وبذلك ينهار البناء القانوني في المجتمع، ويدخل الإنسان مرحلة الضياع والتناقض مع ذاته، لأنه في هذه الحالة يأخذ ولايعطي. ولاتستقيم الأمور وتستقر الأوضاع في المجتمعات بالأخذ دون العطاء . والإنسان الذي يعرف حقوقه ويبذل جهده للتمتع بها وممارستها في حياته الخاصة والعامة، لايكتمل توازنه الداخلي إلا إذا عرف واجباته معرفة جيدة، ولم يتأخر عن القيام بهذه الواجبات إزاء نفسه، وأسرته الصغيرة والكبيرة، ومجتمعه، و الإنسانية جمعاء. وإذا كان (الإعلان العالمي لحقوق الإنسان) الذي صادقت عليه الجمعية العامة للأمم المتحدة في 8 / 12 / 1948، قد حدَّد هذه الحقوق في ثلاثين مادة، فإنه لم يشر إلى ما يقابل حقوق الإنسان من واجبات الإنسان، متجاوزاً (القاعدة المنطقية) التي تقول إن كل حق يقابله واجب. أي بمعنى: لك الحق في التعبير عن رأيك بحرية، ولكن من الواجب عليك أن تحترم آراء الآخرين ومعتقداتهم وخصوصياتهم الروحية والثقافية والحضارية. وكان من نتيجة ذلك أن اهتمت الشعوب والحكومات والمؤسسات والمنظمات الحقوقية والأحزاب السياسية، بالمطالبة بالحقوق الكاملة غير المنقوصة للإنسان، دون أن تلتفت إلى الواجبات المفروضة على الإنسان والتي لا يمكن التنصّل منها، أو تجاوزها، أو تأجيل القيام بها. أعرف أن الضرورات الفنية اقتضت أن يُصاغ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان بالصيغة التي خرج بها، بحيث تُرتّب الحقوق في مواد قانونية وفقاً للصناعة التحريرية المتبعة في مثل هذه الحالات. وبذلك جاء هذا الإعلان الذي مرت ستون سنة على اعتماده، معبراً عن الضمير الإنساني وعن تطلع الشعوب والأمم إلى شرعية دولية تحمي كرامة الإنسان وتضمن له السلامة من كلّ ما من شأنه أن يُحرمه حقوقَه الكاملة. ولكن هذا الإعلان لا يشير إلى ما يقابل الحقوق من واجبات، مهما تكن الأسباب الموضوعية لذلك، مما أحدث (فجوة) هكذا أريد أن أسميها بين الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي صار قانوناً دولياً، وبين تطبيقاته في الواقع المعيش. والذي يُلاحظ على نطاق واسع، هو أن الاهتمام بتطبيق أحكام الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، لا يُوازيه اهتمامٌ آخر بأداء الواجبات الملقاة على عاتق كلّ إنسان فوق هذا الكوكب . ولعلّ العقلاء يدركون جيّداً أن من الأسباب القوية لوقوع الاختلالات والتجاوزات والانحرافات وشتى أنواع الفساد في المجتمعات الإنسانية، إنما هو من أثر عدم القيام بالواجبات الملزمة للانسان. فلو أنّ الأفراد والجماعات ، في جميع الأحوال والحالات، قاموا بواجبهم، كلّ في نطاق عمله ودائرة اختصاصه، وأخلصوا وتفانوا في أداء هذا الواجب، لكانت أحوال العالم أفضل، ولكان الإنسان أسعد والحياة أرغد. إنّ مصدر الأزمات التي يعاني منها العالم اليوم، يعود إلى التفريط في أداء الواجب، مع الاشتغال بالمطالبة بالحقوق دون الاهتمام بالقيام بالواجبات التي يُطوَّق بها عنق كل إنسان. الأمر يقتضي العمل على نشر ثقافة واجبات الإنسان، كما تبذل اليوم جهود مكثفة على مختلف المستويات، لنشر ثقافة حقوق الإنسان. ومنذ سنوات قليلة ظهر مصطلح (التربية على حقوق الإنسان)، ويراد به إدماج مادة تعليمية عن حقوق الإنسان ضمن البرامج الدراسية في شتى مراحل التعليم. ولعلّ من المناسب جدّاً، الاهتمام بالتربية على واجبات الإنسان. وقد يقال في هذا الصدد، إن مادة (التربية الوطنية) التي تعتمد في جميع المؤسسات التعليمية، تغني عن ذلك. وهذا ليس صحيحاً، لأن المقرّر الدراسي حول التربية الوطنية يختص بموضوعات كثيرة ليس من بينها حقوق الإنسان ولا واجبات الإنسان. هل يمكن أن نقرر في المناهج الدراسية مادة حول واجبات الإنسان في مقابل مادة حقوق الإنسان التي دخلت المدارس والمعاهد والكليات؟. إن نهضة الأمم تُبنى بإقرار حقوق الإنسان والعمل بها وحمايتها واحترامها، كما تُبنى بأداء الواجبات وبالحث على القيام بها وبنشر ثقافة الواجب كما تنشر ثقافة الحق، فهما متلازمان متكاملان. فهل يمكن أن نتصور أن يأتي يوم تعتمد فيه الجمعية العامة للأمم المتحدة (الإعلان العالمي لواجبات الإنسان) كما أقرت واعتمدت في سنة 1948 (الإعلان العالمي لحقوق الإنسان)؟ فليكن هذا سؤالاً من جملة الأسئلة التي تشغل قطاعاً من الرأي العام العالمي، يطرح على سبيل الحلم بمستقبل زاهر للإنسانية.