هل من الضروري أن يعود الإنسان إلى الأولويات بعد كل هذه السنين والأعوام التي مرت؟ إنه سؤال أرقني هذه الأيام وملك على منافذ التفكير والتساؤل فهو سؤال يقف أمامي منصبا كأنه كائن حي يلوح ويشير بل يصرخ بأعلى صوته مرددا المقولة المعروفة السوق أو الميدان لا يعمر إلا مرة واحدة، أو حسب التعبير الفلسفي الإنسان لا ينزل إلى النهر مرتين. ومع هذا وذاك فإنني أصر على معاكسة كل هذا و أجازف بمحاولة ارتياد السوق مرة أخرى، بل أجازف كذلك بمحاولة عبور النهر أو النزول إليه أكثر من مرة، وهذا الإصرار وهذه المحاولة إنما هما في الواقع من باب التذكير الواجب أو إلحاح الملزم وهذان الأمران التذكير والإلحاح من شروط نجاح الأفكار والدعوات، فلو لم تتكرر الدعوة ولو لم يتم التذكير والإلحاح في التذكير لما نجحت دعوة ولا بزغت فكرة في دنيا الناس وواقعهم المعيش. الحق أساس الواجب ولهذا فإنني كما قلت، منذ مدة، وأنا أغالب نفسي في تناول الموضوع، وما دمت قد تناولت جزء منه في الأسبوع الماضي فلا مناص لي اليوم من تتمة الكلام والبناء على ما سبق ومواصلة الحديث حيث انتهيت، لقد كان الحديث الماضي عن الحرية كالحديث قبله ولكن الحديث عن الحرية أدى إلى الحديث عما يتبع الحرية من الحقوق التي أصبح الناس اليوم يتحدثون عنها أكثر من الحديث عن غيرها في كثير من المنابر والمناسبات، وهم في غمرة الحديث عن هذه الحقوق التي قد ينالها نقص هنا أو هناك يتناسون ما يعتبر أساسا للحق وهو الواجب. ان الواجب لم يعد الناس اليوم يتحدثون عنه مع أن الواجب كان أساس الكلام عن المواطنة وحياة المواطن عند الناس قديما إذ كانوا يتحدثون عن الأخلاق، وأساس الأخلاق الواجب. دور مؤسسات المجتمع في التربية على الواجب إن الحرمان من كثير من الحقوق اليوم دفع الناس إلى نسيان الواجب إذن، ومن هنا كان من الضروري أن تقوم المؤسسات الموكول إليها أمر التربية بواجب وإلزام التربية على الواجب في مقابل الحق، وهو أمر يظهر أن هذه المؤسسات لم تعد تعنى به، فالأسرة والمجتمع والمدرسة مع تنوعات وتفريعات هذه المؤسسات وتشعب المسؤوليات فيها، فقد كان من المفروض أن تعيد للناس توازنهم فيربطون بين الحق والواجب، ذلك أن المجتمع الذي هو بمتابة السفينة إذا قام كل واحد فيه بالواجب فإن السفينة ستسلم وإن الحق سيكون آليا في هذه الحالة، فواجبات الحاكمين مضبوطة شرعا وقانونا فإذا قاموا بها على أحسن وجه يكونون أدوا الواجب الذي يعطي قطعا الحكم الرشيد والحكامة الجيدة وأساس مقومات هذا الحكم هو العدل، والعدل لا يكون بدون مساواة، والمساواة تعني أن ينال كل واحد ماله ويؤدي ما عليه في تناسق وتناغم كاملين ومن هنا يصبح الفرد آمنا على حريته آمنا على ماله آمنا على عقيدته آمنا على كل شيء من حقه أن يأمن عليه، ويصبح من واجبه الأساس ان يراعي حقوق الوطن عليه وحقوق أفراد المجتمع هذه الحقوق التي للغير هي التي تنتقل من حق إلى واجب. وما قيل عن الحكم والحاكمين يقال عن الأسرة ودورها ولا ينبغي هنا أن ننسى ما ورد في حديث للرسول الذي يقول فيه: (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته) فحدد دور الأسرة والحاكم والفرد والرجل والمرأة وغيرهما حيث قال: (كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته: فالإمام راع وهو مسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهله وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها وهي مسؤولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده وهو مسؤول عن رعيته، والولد راع في مال أبيه وهو مسؤول عن رعيته. فكلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته). وهكذا يتضح أن الحق والواجب توأمان والذين يفصلون بين الأمرين ولا يعيرون للواجب نفس الاهتمام الذي يعيرونه للحق يكونون قد اخلوا بالأمرين معا في نفس الآن. الحق والواجب توأمان ولقد كان الأمر كما قلت عند الأقدمين مرتبطان، فكانوا أكثر ما يتحدثون عن الواجب ويرون أنه يفضي إلى الحق، وهكذا كان الأمر، وهذا ما جعلني أطرح مسألة التساؤل في بداية هذا الحديث إذ عبد ربه كان من الجيل الذي نشأ عن الحديث عن الواجب أكثر ما نشأ عن الحديث عن الحق فنحن عندما فتحنا أعيننا وجدنا أن من واجبنا الدفاع عن الوطن والمواطنين وحريتهما شأن الرواد الذين سبقونا بالحسنى، ولم يكن الحديث الا عن حق ناتج عن الواجب، وهذا الحق هو الذي للوطن علينا للدفاع عنه وبذل كل التضحيات من أجل تحريره، هكذا نشأنا وهكذا وجدنا غيرنا نشأ كما قلت، وكانت الأداة في هذا تربية وطنية حقيقية صادقة تستعمل الدرس في المدرسة والموعظة في المسجد والمحاصرة في النادي، وتلقين الأناشيد في المحافل والجمعيات، ونظم الشعر وكتابة المقالة للتغني بالوطن وحقه في رقاب أبنائه، وواجب هؤلاء الأبناء في تحريره والنهوض به وبأبنائه، هكذا كان الواقع وهذا ما كان له النتائج الطبية والأثر المحمود وكانت عاقبته عاقبة محمودة، يستمتع الناس اليوم باطابيب الحرية والاستقلال بفضل الحق والواجب اللذين لم يعرفا انفصاما ولا انفصالا بينهما. دور الكتاب في التربية والتحرير وما دمنا اشرنا إلى المدرسة والى غيرها من مؤسسات التربية على الواجب بالحق أو الحق المرتبط بالواجب فلا بأس أن نشير إلى احد الكتب التي كانت متداولة بين أيدي الناشئة والأساتذة والقادة حينها، فليس أمرا جديدا القول بأن الكتاب كان أداة فعالة في بناء نهضة الوطن والسعي لتحريره من ربقة الاستعمار، إذ كانت منازل القادة بمثابة فصول دراسية، وكانت بمثابة المكتبات في الأحياء التي يسكنونها أو إن شئت التوسع في الكلام قلت في المدن التي يوجدون بها فهذا أمر لا يزال الكثيرون ممن عاشوا الفترة يتحدثون عن الكتب التي قرأوها أو استعاروها ليس من المكتبات ولكن من البيوت التي كانت تقوم مقام المكتبات التي كانت منعدمة. وقد كان كتاب (الأخلاق والواجبات) للشيخ عبد القادر المغربي من بين الكتب التي كانت تنال عناية خاصة لدى رواد الحركة الوطنية فكان الكتاب حاضرا بينهم وبين التلاميذ والطلبة، وهو بالفعل من الكتب الأولى التي رسمت مجال التربية الوطنية الدينية أو ما أصبح يعرف ويتداول اليوم تحت عنوان التربية المدنية أو التربية على السلوك المدني، لقد بذل مؤلف الكتاب جهدا كبيرا لإخراج كتابه على النحو الذي هو عليه، وهو ما أهله لينال الإطراء من طرف العلماء والمفكرين في دقته وأسلوبه واختيار ألفاظه ومعانيه فقد كتب في شأنه الأمير شكيب ارسلان يقول: »وما أرغبني في تنشئة الأحداث على مبادئ الأستاذ المغربي إذ لا أرى أسلوبا يجمع بين الدين الصحيح والخلق المتين وبين الاحتياج العصري كأسلوبه«. كما كتب غيره في تقريظ الكتاب ما يعتبر شهادة للكتاب ولصاحبه. وصاحب الكتاب هو أحد أعمدة النهضة العربية الإسلامية الحديثة، إذ لعب دورا كبيرا في مجال التربية والصحافة والكتابة وخدمة اللغة العربية وكان عضوا نشطا وبارزا في مجامع اللغة العربية في مصر وسوريا والعراق كما كانت له عناية خاصة بعلم التفسير وبعلوم القرءان وبالتدقيق في اللغة العربية، وكان كثير الإنتاج غزير المادة اشتغل بالصحافة مهنة وكتابة، وكانت الصحافة في حينه مدرسة لتخريج العلماء والأدباء بلغة عربية قوية وسليمة، فلا عجب إذن أن يكون من بين ما يثني عليه النقاد في كتابه هو أسلوبه وعباراته المثقاة والجميلة هذا عن الكتاب وصاحبه. أما موضوع الكتاب ولماذا عنوانه فلنترك الكاتب نفسه يقدم لنا عمله وكتابه وعنوان في الفقرات التالية: الأخلاق والواجبات أعمال لا أماني: نريد بالأخلاق والواجبات التي عليها مدار الكلام في هذا الكتاب مجموع الفضائل والأعمال الصالحة التي يمارسها الإنسان فنجعله ذا شخصية مستقلة وكيان خاص، وهي باعتبار صدورها عن نفس الإنسان، واعتياد جوارحه لها ، تسمى »أخلاقا« وباعتبار وجوب ممارستها والقيام بها ليكون عضوا عاملا في الهيئة الاجتماعية تسمى:»واجبات«. وإنما جعلنا الأخلاق أعمالا للإنسان ولم نجعلها ملكات أو صفات لنفسه: لأنه لا قيمة في الواقع ونفس الأمر للصفات التي تتصف بها نفس الإنسان ما دمنا لا نرى لها أثرا في المحيط الخارجي. فمهما كانت نفس الإنسان مشبعة بحب النظافة، عارفة بطرقها، مقتنعة بلزومها، لا يصح أن يقال انه متخلق بخلق النظافة أو قائم بواجب النظافة، مع أننا نرى جسمه غير نظيف، وثوبه غير نظيف وفناء داره غير نظيف، ومتاع بيته غير نظيف. ومهما شعر الإنسان من نفسه بالشجاعة والإقدام لا يصح أن يقال عنه شجاع مادام يحجم أو يتسلل لواذا عن مواطن الخطر، والدفاع عن الحوزة. ومهما أحس من نفسه العطف والحنان على الفقير لكنه لا يجود بفلس واحد في سبيل راحة ذلك الفقير وتخفيف الضر عنه لا يصح أن يقال أنه شفيق ولا أن يصف نفسه بصفة الرحمة والحنان. ومهما قال عنه انه يحب وطنه وانه يعتقد وجوب خدمته والاستماتة في سبيله، وهو إذا كلف أقل عمل لمصلحته جادل عن نفسه ومارى، أو انخزل عن تأييد تلك المصلحة وتوارى، كان كاذبا في دعوى الوطنية، ولم يكن محبا لوطنه ولا متخلقا يحب الوطن. وهكذا سائر الأخلاق والفضائل الإنسانية. فالأخلاق لدى التحقيق أعمال مشهودة تقع آثارها تحت مشاعر الحس سواء هي في ذلك قبل أن تصبح عادة الإنسان تصدر عن نفسه بسهولة، أو بعد أن تصبح عادة له. أليس هو قبل أن يعتاد الصدق يصدق بالفعل ثم يصدق بالفعل ثم يصدق بالفعل ثم يصبح الصدق أخيرا عادة له بحيث تصدر عنه أعماله وأقواله الصادقة بسهولة، ومن غير روية. فانظر كيف أن الأخلاق أعمال متكررة في نهاياتها، كما هي كذلك بداياتها. الأخلاق والواجبات من النية إلى التصنيف: لكن هذه الأخلاق والأعمال في الإنسان ترتكز على نيته وإرادته المستقرة في نفسه. وبهذه النية أو الإرادة تصبح الأعمال أعمالا أخلاقية، ويكون لها حظها من الحسن والقبح ودرجتها من الميزة والاعتبار، وإلا كانت وأعمال الحيوان سواء: فان أعمال الحيوان تشبه أن تكون حركات ميكانيكية لصدورها عنه من دون قصد، ولا سابقة فكر. ولقد أحسن من قال:» من زرع فكرا حصدا عملا، ومن زرع عملا حصد هادة، ومن زرع عادة حصد خلقا، ومن زرع خلقا حصد حظه من هذه الدنيا سعادة أو شقاء«. ولكننا في هذا الكتاب (الذي نريد أن نشرح فيه أخلاق الإنسان وواجباته سواء أكان منفردا أو عائشا مع الجماعة) مضطرون إلى تصنيف هذه الأخلاق والواجبات وتوزيعها على المواضع المختلفة، وجعلها مباحث : فالأخلاق التي يغلب أن يكون أثرها متعلقا بالفرد ونفعها الظاهر عائدا على شخصه نجعلها من (الواجبات الشخصية) والتي يغلب أن يكون أثرها ونفعها الظاهر عائدا للآخرين من أعضاء المجتمع نجعلها في عداد الواجبات الاجتماعية، ونجعل هذه الأخيرة ثلاثة أقسام: (واجبات عائلية) و(واجبات اجتماعية) و(واجبات مدنية) ثم نعقب ذلك بتتمة تشتمل على ستين آية وحديثا في ضروب من الأخلاق والواجبات مختلفة. إنه حقا أمر مهم وعظيم إذ كان الناس يتحدثون عن الواجب وينظرون إليه نظرتهم إلى الحق، لقد انقلب الزمان وأصبح الناس غير الناس والمفاهيم غير المفاهيم فبقدر ما يتهافت الناس على الحقوق بقدر ما يهربون من الواجب ويخلقون من الأعذار ومن المبررات ما يقدرون وما لا يقدرون عليه للتهرب من الواجب. وإذ كانت الصحافة والهيآت قديما تدعو للقيام بالواجب وعدم التأخر عما يفرضه هذا الواجب، فقد عشنا ورأينا الناس يدافعون عن كثير من التصرفات ليست مخلة بالواجب فقط ولكنه هي من باب الإضرار بمصالح المجتمع وعقيدته ومصالح الوطن العليا أقرب. أين نحن اليوم من ذلك الزمان الذي مضى وأين نحن من أهله حيث كانوا يرون الواجب قبل الحق ويتسابقون في الخير والصالح العام. ان التربية الوطنية الصحيحة والسليمة والمستمدة من الدين وحدها الكفيلة بإعادة التوازن إلى المجتمع، وهي الكفيلة كذلك بإصلاح ما اعوج من سلوك الناس ومن أفكارهم، إن قيم المواطنة الحقة هي المبنية على القيام بالواجب والتمسك بالحق في نفس الآن. ان الضمير والشعور الأخلاقيين لا يمكن ان يقوما بدون عقيدة صحيحة وسليمة، والمجتمعات الإسلامية ومن بينها المجتمع المغربي في حاجة إلى إعادة التقويم للمناهج والأساليب ورد الاعتبار للتربية على الأسس السليمة، وليس على قيم وأساليب لا تُكَوِّنُ ولا تربى وإنما تزرع الضياع.