تهدف سلسلة مشوار الحياة إلى الغوص في الممارسة السلوكية والأخلاقية والاجتماعية للحياة الزوجية ومحيطها، وذلك من خلال تسليط الضوء على حالات معيشة داخل بعض البيوت، سواء منها التجارب الإيجابية أو السلبية. وتقدم السلسلة الفكرة عبر جنس الأقصوصة أو الخواطر في شكل أدبي يرنو إلى رفع مستوى التلقي والمعالجة، بغية خلق تفاعل تواصلي بين القارئ والفكرة أساسا، ولا يعني ذلك أن السلسلة تقصي مجموعة دون أخرى من شرائح المجتمع. أبتغي من خلال السلسلة أن يتواصل معها القارئ، وذلك بإبداء الرأي والنقد بعد كل واقعة ضمن وقائع مشوار الحياة. تلقت فاطمة مكالمة من جارتها حليمة، بادرت حليمة إلى التعبير عن شوقها لفاطمة، جارتها الوفية والمخلصة، بتلقائيتها المعهودة دعتها للالتحاق بها بمصطاف شاطئ الرأس الأسود مصحوبة بزوجها، ألحت في الدعوة، لكن فاطمة تعففت وتظاهرت بانشغالاتها، وانتظارها للأبناء الذين سيعودون من ألمانيا هذه السنة. لم تنفعها هذه الاعتذارات، ووجدت نفسها في الأخير تقبل الدعوة على مضض. دخلت فراشها هذه الليلة أحست بضيق في التنفس، تقلبت على فراشها، تساءل زوجها عن السبب، لم تعرفه نفسها، ولكنها أدركت أن هذه الدعوة وبفراستها ستحمل مفاجآت أو أشياء لا تحبها لا قدر الله. وبعد صلاة الفجر بمسجد الطريق السيار، انطلقت هي وزوجها نحو المصطاف مستغلين برودة الجو، ولطافة النسيم في هذا الشهر الحار، لم تنس وِردها اليومي، ولم تنس أذكارها، والإنصات إلى أشرطتها المفضلة، كانت تقدم لزوجها شربة ماء عذب زلال بين الفينة والأخرى، واستغلت طول الطريق في الحديث عن الأبناء الذين كبروا، والذين استقرت بهم الأوضاع في بلاد الغربة، هناك حيث القساوة، والتصدي لدين الله بشتى الطرق، تمنت على الله أن يعودوا إلى جوارها، في بلدهم الأمين، وزوجها بالطبع لا يوافق على طول الطريق، "هناك أفضل لهم، هناك أحسن، هناك أضمن"!! يا سبحان الله، لندع الجدال، وصلا إلى المصطاف، وتذكرت دار صديقتها وجارتها، ها هي تطرق الباب، ليفتحه زوج حليمة، كان الترحاب حارا كما كان متوقعا، وفاطمة تعرف قدرها عند جارتها... وفي ركن قصي من الصالون، أقبلت حليمة في بدلة صيفية غير عادية، ترحب بجارتها وبزوجها! تلعثمت فاطمة، وتسورت في مكانها، معتقدة أن صديقتها لم تنتبه إلى حضور زوجها معها! أواه! ها هي تجلس بكل راحتها، وتسأله هو عن الطريق وصعوباتها ومتاعبها، حاول هو أن يتجاهل الأسئلة مستشعرا الحرج الذي تسبب فيه لباس حليمة. ثم بدأ الأطفال في هرجهم ومرجهم ينادون حليمة كي تلحق بهم إلى الشاطئ، وقد وعدتهم بالسباحة معهم طيلة الصباح! وببداهتها المعهودة أدركت فاطمة أن هذا المصيف حطم كل المكتسبات من حيث التزام حليمة بمبادئها! أحقا يفعل المصيف كل هذا بالعباد؟ كانت الحرارة عادية، لكن حرارة فاطمة ارتفعت وأحست بالدوار، هرعت إليها حليمة لتسعفها ببعض الأدوية، أخذت بيديها إلى غرفة مجاورة، وسألتها: "بالله عليك ما بك، منذ دقائق فقط أكنت بألف خير"؟ انفجرت فاطمة باكية وهي تقول: "آلمني حالك، وحال أبنائك في المصطاف، لقد عرفت عنك الثبات والقوة، والصبر على المبادئ، وها أنت في رمشة عين، وأمام فتنة الصيف تخليت عن كل شيء! ما السبب؟" انفجرت حليمة باكية، وهي تلوم زوجها الذي استدرجها، معللا هذا التخلي براحة بيولوجية من التدين والالتزام، بل وحتى أداء الصلوات. وهي بطبعها تخاف من ضياع الزوج وابتعاده عنها، فما كانت لتتصدى لهذه المطالب... انطلقت فاطمة في أداء الواجب، وتقديم النصح بضرورة ترتيب الأولويات، وتذكير النفس بلحظات الغفلة، ومواطن السوء، والسير في الركاب المظلمة... رتلت الآيات، وسردت بعض الأحاديث، وبشرت في الأخير بأن الله أعد للصابرين جنات عدن، وأن القابض على دينه كالقابض على الجمر...! لم تدر ما الفصاحة التي ازدان بها لسانها، ولم تدر ما الصدق الذي طوق كيانها، ولم تدر ما البكاء الذي كحل عيونها، الشيء الوحيد الذي تذكره، هو أن حليمة ارتمت في حضنها باكية، تسكب الدمع السخي، معاهدة الله عز وجل على التوبة النصوح من كل ذنب أو قصور، وعلى الرجوع الصادق إليه قلبا، وفكرا، وعلما، وعملا، وعلى الثبات بإذن السميع العليم... وعند طريق العودة، لم تنس فاطمة أن تقول لزوجها "كل الأجر نلته أنت، فأنت من أوصلني إلى هذه المائدة، مائدة تغيير المنكر! فجازاك الله خيرا..." بقلم: د. الناجي الأمجد