أسرار بلا مرسى تهدف سلسلة مشوار الحياة إلى الغوص في الممارسة السلوكية والأخلاقية والاجتماعية للحياة الزوجية ومحيطها، وذلك من خلال تسليط الضوء على حالات معيشة داخل بعض البيوت، سواء منها التجارب الإيجابية أو السلبية. وتقدم السلسلة الفكرة عبر جنس الأقصوصة أو الخواطر في شكل أدبي يرنو إلى رفع مستوى التلقي والمعالجة، بغية خلق تفاعل تواصلي بين القارئ والفكرة أساسا، ولا يعني ذلك أن السلسلة تقصي مجموعة دون أخرى من شرائح المجتمع. أبتغي من خلال السلسلة أن يتواصل معها القارئ، وذلك بإبداء الرأي والنقد بعد كل واقعة ضمن وقائع مشوار الحياة. لم تكن فاطمة تدري ماذا يعني الخصام في بيت أبيها، بل هناك تعلمت الشيء الكثير عن الصفح، وعن التجاوز. وتعلمت كيف تبني أحكامها على حسن الظن، كي لا تندم إن هي أساءته. رأت بأم عينها كيف تنقلب الحقائق في آخر اللحظات، وتقلب معها الموازين، فلا ينفع بعد ذلك عدول أو رجوع، بعد أن تكون الأحكام المجحفة قد صدرت وعمقت جراحات كثير من النفوس. وفي بيت الزوجية اتخذت مسلك المصارحة المبدئية مع الآخر، وروضت نفسها على البوح، إذ البوح رسالة صادقة إلى الآخر، وتلقيها من الآخر شهامة، وحسن استماع، وحسن تأويل، وأروع ما في ذلك الحفاظ عليها (الرسالة) وعلى مضامينها. كانت بدايات الزواج، وفي كل ليلة حميمية، لم تجد مناسبة أفضل وأليق من البوح لزوجها ببعض أسرار أسرتها، وأسرار طفولتها، وأسرار وسطها دون تحفظ أو انتقاء، إذ كانت بعد البوح مباشرة تحس بسكينة لا نظير لها، وتعتز ببعلها الذي أخذ عنها جزءا كبيرا من الأثقال. فكل الأسرار كانت تؤرقها، وتضغط على قلبها، تخنقها للحظات عديدة، حتى منّ الله عليها بهذه النعمة الرائعة: زوجها المنصت! ومرت الأيام، وبدأ هو بالمقابل يلمح إلى بعض أسراره، بكثير من التحفظ أثناء الحكي، فتشتاق إلى المزيد، يحرجها الحكي البطيء أو بالأحرى غير المكتمل، لكنها كانت تعود إلى نفسها موبخة إياها: >ليس من حقي أن أطالبه بحكي كل أسراره، هو حر في حفظها أو إفشاء ما بدا له منها<. ودارت أيام الحياة مقلبة صفحات الحب الأول، وصفحات الروتين، وصفحات المشاكل، ووجدت نفسها فجأة أمام رجل يغضب، ويخاصم على كل صغيرة، كانت تتفهم ذلك بالنظر إلى طبيعة شغله ومشاكله، تلتمس له العذر تلو الآخر، يجهد نفسها في امتصاص الغضب واحتواء ما استطاعت منه، لكن الطامة الكبرى، والتي كانت لا تقوى عليها، وعلى آثارها، هي تجرؤه على نبش صفحة الأسرار التي سبق وأن باحت بها له في لحظات سابقة، كان يتطاول وبلا خجل عليها، فيخرج السر تلو السر ويصنعه في السياق الذي يريد، ويستعمله كسلاح نووي ومدمر، لكن الأحاسيس >لو عدت إلى ماضيك، لما استغربت من هذا السلوك!< >لو عدت إلى أخلاق أسرتك لعرفت لماذا هذا السلوك!< >لو عدت إلى عادات أهلك وسلوكاتهم لرأيت أن هذا المكتسب الأخلاقي طبيعي جدا<. هذه الصيحات المدوية تثقب طبلة أذنها، تدك شعورها وكرامتها، تطحن فيها كل ذرة إحساس بالراحة والطمأنينة، كل ذلك في الوقت الذي دفنت فيه أسرارها في قلب زوجها، ودفنت أسراره في قلبها، تهرع إلى غرفتها وتصعق باكية من هول المصيبة الحقيقي من هذا السلوك! أهو استغفال أم استبلاد! أهي كراهية دفينة أم استدراج! ما بال ابن آدم لا يبقى شامخا عاليا؟ وتتوالى الزفرات المنكسرة بعد هذه الخصامات ثم تتساءل عن مصير كل الأسرار، وكيف يستعملها الزوج بين الفينة والأخرى سلاحا ضدها؟! إلى متى سيظل هذا الرجل بلسانه الجارح طائرا كاسرا لعواطفها؟! يدخل زوجها هذه المرة عازما على مصالحتها، له ذلك، لأنها لا تقدر على العتاب واللوم الطويلين. فسرعان ما تقول له سامحك الله، يقبل رأسها ويخرج مسرعا وكأن المهمة انتهت بتقبيل الرأس. نادته هذه المرة قبل أن يغلق باب البيت، وكادت تبوح له بأنها لم تعد تحبه كما كانت، ولم يعد ذلك الإنسان النبيل في عينها، ولم تعد مستعدة للبوح إليه كلما دعت الضرورة! لكنها لم تقو على هذا الاعتراف بل قالت مكتفية: >أنا مازلت محتفظة بأسرارك كلها في دواخلي، وقد عرفت الشيء الكثير عنك أثناء زياراتي لأسرتك، وقد حكت لي بعض قريباتك التي كنت ستتزوجها سابقا أشياء مهمة عنك، و... و... و...، لكني سأحتفظ بها أينما دفنتها، بلا رجعة، لن أستعملها ضدك!< خرج دون تعليق، وهي ذرفت دون توقف، وخيط الثقة الرفيع تململ، والأيام المقبلات ستُظهر... وإلى مشوار آخر