الحلقة الثالثة الغيرة القاتلة تهدف سلسلة مشوار الحياة إلى الغوص في الممارسة السلوكية والأخلاقية والاجتماعية للحياة الزوجية ومحيطها، وذلك من خلال تسليط الضوء على حالات معيشة داخل بعض البيوت، سواء منها ذات التجارب الإيجابية أو السلبية. وتقدم السلسلة الفكرة عبر جنس الأقصوصة أو الخواطر، في شكل أدبي يرنو إلى رفع مستوى التلقي والمعالجة، بغية خلق تفاعل تواصلي بين القارئ والفكرة أساسا، ولا يعني ذلك أن السلسلة تقصي مجموعة دون أخرى من شرائح المجتمع. وأبتغي من خلال السلسلة أن يتواصل معها القارئ، وذلك بإبداء الرأي والنقد بعد كل واقعة ضمن وقائع مشوار الحياة منذ أول أيام زواجهما علمها مصعب أن الغيرة الزائدة تدك بناء الأسرة، تحيله إلى حطام، لا تبقي ولا تذر، و.. كانت رقية تعي هذه الأسطوانة، وتحفظ معانيها عن ظهر قلب، إلا أن الإدراك الحقيقي لها يغيب عن قلبها وعقلها، كلما تعلق الأمر بمقدمة صغرى لمهيجات الغيرة عندها. لم تكن مشاريع مصعب التربوية تخفى عن رقية، ولم يكن مشواره يقبل أن يتخلى عن نشاط من الأنشطة، انخرط في هذا الأداء بكل ما يملك من قوة، وسار على درب قوامه العطاء والاستمرارية في الحياة، طور كل إمكاناته، وانطلق يشيد صروحا كبرى ضمن هذه المسيرة التي تفتحت من خلالها أبواب كثيرة، اعتبرها نصرا من الله. وحين يعود إلى بيته، كثيرا ما كان يفتح قلبه لزوجته ساردا أدق التفاصيل عن كل الأنشطة، لكنه بمجرد ما يذكر لها حضورا نسويا، أو يتحدث عن امرأة خلال هذا النشاط أو ذاك، تنقلب الموازين والآيات، لتبدأ معها سلسلة الأسئلة الاستجوابية والاستنكارية: لم فعلتَ؟ لم قلت؟ لم نظرت؟ لمَ؟ لمَ؟... هي المرارة بعينها، وطعم الإحباط شعوره كلما وصلت اللحظات إلى هذه الذروة. ينقلب على نفسه يلومها، يعنفها، ويندم على تلقائيته التي ورطته في هذه المطبات. عاش هذه اللحظات مرارا، وندم على تبعاتها، وتجرع غصة الجفوة التي يقابل بها كلما عاد من نشاط، أو محاضرة، أو لقاء. وبين دواليب الحيرة والحسم، كان عليه أن يحسم الأمر، وينتقي الحل الأصوب والأقوم، خصوصا وأن هذه النقاشات سرى دبيبها إلى سكينة البيت والأولاد، ونغص عليهم لحظات كان الأجدى أن ينعموا بطعمها.. انتفض من مجلسه وقد أخذ على نفسه أن لا يحكي معظم التفاصيل عن أنشطته، وأحيانا يقتر على زوجته في الحكي، ويلغي إخبارها عن هذا النشاط أو ذاك. ربما وفق إلى حد ما في إبعاد الثورة والقلق عن بيته لأيام أو لحظات، الشيء الذي ربما أعفاه من كثير الضجر والملل، لكن الطامة الكبرى تطاله لمجرد أن تعلم زوجته بنشاط لزوجها عن طريق إنسانة أخرى حضرت النشاط، أو إعلام، أو نشرة، فتبدأ فصول مشاكسة غريبة تنبني أساسا على سوء الظن والريبة، مما يحيل الفضاء الأسري إلى محكمة، أو طاولة استنطاق الغرض منها اتهام الزوج قبل أن تثبت براءته، فيتجرع المسكين هذا الوضع بعد أن يرغي ويزبد، وبعد أن يفقد صوابه، ليعود بعد لحظات باعتذاراته، وتبريراته. فتنتشي هي بانتصارها الوهمي، وبجدوائية موقفها. مرت أعوام على هذا الوضع وتأمل المشهد جيدا، وفي ليلة بلغ غضبه زباها، فأخبرها بأنه لم يعد يطيق هذا الوضع، وأن عليها أن تبني الأمور والعلاقات على حسن الظن، وأن الثقة تنقطع حبالها لمجرد الاتهام، ربما أطنب في الوعيد والوعد، وفي التحذير الذي يلزم، معتقدا أن الرسالة ربما وصلت بشكل لا يدع مجالا للتأويل أو التشويش. ومضى في مشواره، لكنه بدأ يحس بالخطوات الجاسوسية تتبعه، تفتش أوراقه، كنانيشه، مذكراته، كل شيء يحسبه من العورات، بل امتدت يدها المتهمة إلى جهاز هاتفه تترصد المكالمات والرسائل. من هنا انبرى الغضب الداخلي يهتك أستارا بناها التشريع الإلهي، وجعل منها لحظات خاصة، عورة، ملكا لا يجوز لأحد أن يدوسه، وغاض الجرح من جراء هذه التصرفات، إلى أن جاءت تلك اللحظة الحاسمة ليبني فخه الواعي، راجيا من ورائه أن يوقع بزوجته عساها تدرك المسار المغالي، وتدرك لوعة الغيرة القاتلة والشك. تبعته مع قريبة لها في سيارة فاستدرجهما إلى موعد مسبق مع سيدتين رتبه بعناية في زقاق مظلم، وجاءت تسعى هي والأخرى معتقدتين أن الزوج وقع في الخطيئة، واستصدرا حكمهما الخاطئ، وحكما على نفسيهما أمام الله بالقذف. لا أملك أن أحكي لكم قرائي بقية الفصول، لنجعل هذه الحكاية بوابة السؤال عن حال كثير من الزيجات في بلدنا، وحال كثير من اللواتي ينقضن المواثيق، ويهدمن البيوت، من نوافذ سوء الظن الذي حذر منه العلي القدير. تمزقت عرى هذا البيت، شاهدت هذه اللحظات، وهل يصح المثل عليها: الصيف ضيعت اللبن ، الغيرة هدمت البيت. وإلى كل متطلعة للسعادة، ولجمالية الثقة، أهمس بمرارة، الرجل واد هدار، أو سيل هادئ، وأنت المحركة للهيجان، والمدبرة للسكون، فاجعلي حسن الظن بوابة لهذه السكينة، وانعمي بسعادة تصنعينها، بحكمتك، وأكثري من الدعاء لمثل هؤلاء. وإلى لقاء