كل الناس مجبولون على أكل الطعام، الأنبياء والطالحون، الرسل والمجرمون، كلهم اقتضت بشريتهم الأكل وجلب الأكل من أماكنه المعلومة، فقد نص القرآن على أن الأنبياء لا يخالفون سنن الحياة، يدخلون الأسواق التي وصفتم حالها بسبب وجودكم *** التأليف في السوق يعتبر التأليف في فقه السوق من أهم المواضيع التي اهتمت بها الشريعة الإسلامية، ضبطا وتقنينا وحسبة. وممن ألف في فقه السوق من المغاربة الإمام أبو زكريا يحيى بن عمر بن يوسف الكناني الأندلسي ( 312 982 هـ)، حيث ألف كتاب : أَحكام السوقِ، أو: النظر والأحكام في جميع أحوال السوق. عمر بن الخطاب يشدد في معرفة أحكام السوق وقد روي عن عمر بن الخطاب رضي أنه قال: لا يتجر في سوقنا إلا من فقه، وإلا أكل الربا، وكان يُخرج من السوق من لا يعلم أحكام البيع، كما ذكر الزرقاني في شرحه على الموطأ. ونقل الشيخ أبو محمد بن أبي زيد في كتاب(النوادر والزيادات) أن عمر رضي الله عنه نهى الأعاجم عن البيع في السوق حتى يتفقهوا في الدين. تسييج الأسواق بالأحكام وقد وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة والأئمة مجموعة من القواعد والأحكام التي تعد قوانين حاكمة لمنع التسيب والتحكم في رقاب العباد، فلا ينبغي أن يترك سوق من أسواق الناس من غير أن يلجه الصالحون، ومن غير أن يؤسس على قواعد المصلحة والعدل. ومن هذه القواعد التي وضعها الأولون: 1 وجوب تعلم الأحكام المتعلقة بالسوق لمن يريد الدخول فيها. ولهذا كثر قول الفقهاء في ناقص العلم بسوقه:نرى أن يعاقب ويخرج من السوق. وروي عن عمر أنه قال:من لم يتفقه فلا يتجر في سوقنا، فذلك قوله تعالى:؟ ولا تؤتوا السفهاء أموالكم؟، يعني: الجهال بالأحكام(أحكام القرآن: القرطبي: 5/ ص82). 2ـ مراقبة الجودة ومنع الغرر والظلم: وأصلها حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مَرَّ على صبرة طعام فأدخل يده فيها فنالت أصابعه بللا، فقال: ما هذا يا صاحب الطعام؟ قال: أصابته السماء يا رسول الله. قال:أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس، من غش فليس مني(صحيح مسلم: باب قول النبي صلى الله عليه وسلم:من غشنا فليس منا). 3ـ بتعيين الدولة للمحتسبين وهم المراقبين لصحة الجودة، ومعاقبة المتلاعبين، والنظر في الأسعار.. وقد بلغت العقوبات درجة الحرمان من الاتجار في السوق. قال الشيخ أبو زكرياء يحيى بن عمر:ينبغي للوالي الذي يتحرى العدل أن ينظر في أسواق رعيته، ويأمر أوثق من يعرف ببلده أن يتعاهد السوق، ويعير على أهله صناعاتهم وموازينهم ومكاييلهم كلها، فمن وجده قد غير شيئاً من ذلك، عاقبه على قدر ما يرى من بدعته وافتياته..ثم أخرجه من السوق حتى تظهر منه التوبة..ولا يغفل النظر، إن ظهر في سوقهم دراهم مبهرجة أو مخلوطة بالنحاس، وأن يشدد فيها ويبحث عمن أحدثها، فإذا ظفِر به - إن كان واحدا أو جماعة- أن ينالهم بشدة النكال والعقوبة، ويأمر أن يطاف بهم في الأسواق، ويشرد بهم من خلفهم(أحكام السوق:ص2و04). 4ـ الرجوع إلى أهل الخبرة للحسم وإيقاف الرعونات: سئل يحيى بن عمر عن رجل تعدى على دينار فكسره، فقال:يغرم مثله في وزنه وسِكَّته. فقال السائل: إنه لا يوجد مثله في سكته لرداءته ونقصه..فقال: يمضي به إلى أهل المعرفة بالدنانير. مراد أهل الضلال ابتعاد أهل الصلاح عن الأسواق ولذلك يريد أهل الضلال لو يبقى هؤلاء بعيدون عن هذه الأسواق، وليستمتعوا بطهرهم، وليتعففوا كما شاؤوا، فلم ذلك وزيادة. فإن فعلوا عكس مرادهم، ودخلوا أسواقهم، فالاستنكار والسخرية والاستهزاء بهم لن يتوقف عنهم، من أجل صدهم عنها. وهم خلف لمن سبقهم من الذين قالوا لنبي الإسلام، وهم ساخرون مستهزؤون:؟وَقَالُوا مَا لِهَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً؟(الفرقان:7). قال الشوكاني في تفسير الآية: والمعنى: وما أرسلنا قبلك أحدا من المرسلين إلا آكلين وماشين(فتح القدير:4/ص48). فلا تشغلوا أنفسكم بنا، ولا تقلقوا من دخولنا، فإننا لن نترككم تنفردوا بهذه الأسواق. إن أولئك الذين يرفعون عقيرتهم: ما دخل الدين في السياسة؟ ما دخل الدين في الاقتصاد؟ ما دخل الطاهر في المدنس والمتسخ؟ إنهم يدافعون عن الدين بأن يبقى طاهرا نقيا لا يتلبس بشيء من هيشات الأسواق. وهم يريدون للصالحين أن ينأوا بأنفسهم عن الأسواق وأن يبتعدوا ما أمكنهم الابتعاد، تاركين أمرها لهم، يصرفون أمورها على حسب أهوائهم ومن غير إزعاج. وحيث إن كل الناس مجبولون على أكل الطعام، الأنبياء والطالحون، الرسل والمجرمون، كلهم اقتضت بشريتهم الأكل وجلب الأكل من أماكنه المعلومة، فقد نص القرآن على أن الأنبياء لا يخالفون سنن الحياة، يدخلون الأسواق التي وصفتم حالها بسبب وجودكم، فقال عز من قائل: وَقَالُوا مَا لِهَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا(الفرقان:7). وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا(الفرقان:20). فلماذا اهتم سبحانه وتعالى بهاتين، وهما طبيعة وفطرة؟ وما علاقة ذلك بالإصلاح السياسي؟ ذلكم هو موضوع المقالة القادمة.