ينطلق جزء كبير من الخطاب السياسي الإسلامي من منطلق الاستعلاء على الآخر والاستغناء عنه، فهو يخاطب غيره من فوق على أساس أنه يملك الحقيقة المطلقة، ويتعامل مع الآخر من منطق الاكتفاء بقدراته وطاقاته، ويتحرك كأنه وحده سيحقق أهداف الأمة كلها دون حاجة إلى التعاون مع الآخرين . وهذه السمة مبنية على أخطاء في العلم والتقدير عميقة، منها : 1 رفع الاجتهادات السياسية إلى مستوى الأحكام الشرعية الثابتة بالكتاب والسنة، فيعتبر الرأي المخالف فيها باطلا مجافيا للحق، بل قد يتخذ مناط الولاء والعداء، وقد ينسب المخالف في الاجتهاد السياسي إلى البدعة والفسوق، إن لم يكن إلى الكفر، وهذا كله مخالف للكتاب والسنة ولما عليه سلف الأمة في هذا الباب. 2 الانطلاق من تزكية النفس وتنزيه الذات، في مقابل الحط من الآخر وتضخيم عيوبه، ولسان حاله يقول : أنا الأعلم بالشرع، والآخر لا يدري شيئا، وأنا الاتبع للشرع، والآخر حائد عنه، ومن ذلك قوله تعالى : ( فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى) النجم 32 . 3يعتبر الخطاب المستغني نفسه كاملا، مكتفيا بذاته، لا يحتاج إلى من ينبهه إلى خطأ أو يعرفه بنقص، كما لا يحتاج إلى استفادة من الغير، ومن ثم : فهو يخوض تجربته السياسية وحده، ويصوغ أحكامه ( أو اجتهاداته) وحده ولا يأخذ بعين الاعتبار ما يقوله غيره ولو كان من العلماء المعتبرين أو المجربين المحنكين. 4 تنتهي هذه السمات المتسلسلة إلى أن ينظر الخطاب المستغني إلى الأفكار والأشخاص نظرة تتسم بالطلقية، فهي إما خير محض وإما شر محض، والآخرون إما أصدقاء وإما أعداد، ولا حل وسط، ولا مجال لأي تطبيق جزئي أو أي تدرج. وهذا يناقض بدهيات العقول، كما يناقض ما كرره علماء السلف من أن أي شخص أو طائفة قد يكون عندها بعض الحق أو بعض الصواب الذي يجب أن يعرف لها. والاختيار في مجال السياسة الشرعية يتم على أساس الارضى من الموجود و الغالب أنه لا يوجد كاملا، فيفعل خير الخيرين، ويدفع شر الشرين، ولهذا كان عمر بن الخطاب يقول : أشكو إليك جلد الفاجر وعجز الثقة، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يفرحون بانتصار الروم والنصارى على المجوس، وكلاهما كافر، لأن أحد الصنفين أقرب إلى الإسلام، وأنزل الله في ذلك > سورة روم لما اقتتلت الروم وفارس، والقصة مشهورة، وكذلك يوسف : كان نائبا لفرعون مصر وهو وقومه مشركون وفعل من العدل والخير ما قدر عليه، ودعاهم إلى الإيمان بحسب الإمكان < . إن هذه المقدمات أنتجت خطايا سياسيا ذا سلبيات بالغة الأثر منها : أنه خطاب يفقد خاصتي الرفق واليسر، ويشكل بذلك مصدر توجس وخوف، وربما مصدر رعب وفزع، قد يؤدي قد يؤدي إلى فقد الأصدقاء وتكثير الأعداء، وفتح جبهات لا مبرر لها. والأصل أن يكون الخطاب السياسي خطابا مطمئنا، رفيقا، ميسرا متلطفا، متوددا... (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن) النحل : ,125 ( ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم) فصلت:,43 > المؤمن يألف، ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف < . وفي خطاب السياسي للدعوة من الخلل والنقص، وفي تأثيره من المفاسد، على قدر نقص تمثله لتلك المعاني. أنه خطاب يلغي من حسابه الآخر وظروفه وردود فعله، وينطلق كأن صاحبه هو الطرف السياسي الوحيد في الساحة. كما يلغي من حسابه ذوي الفضل والعلم وذوي الخبرة والسابقة، كأن عهد صاحبه يشكل قطيعة مع سابقيه، فهو الفاتح لما أغلق، والآتي بما لم تستطعه الأوائل، وهو بذلك يلغي تجاربهم وينتقص الاستفادة منها، ويكرر أخطائهم باستمرار. أنه خطاب مستعل، لا يطرح نفسه بوصفه اجتهادا، أو رأيا، أو اقتراحا فيه ما في اجتهادات البشر من القصور والمحدودية، بل يضفي على نفسه مطلقية الوحي وكماله، وعصمة من نزل عليه، وكل هذا يجر إلى إصدار الأحكام والاستنتاجات المطلقة بدل فتح باب الاحتمالات، وأخذ الأمور فهما ومواجهة، من منطلق النسبية والأولويات والفرص المتاحة والإمكانات الذاتية. أنه خطاب قادح جارح، ينتقل من مناقشة وانتقاد الأفكار، إلى اتهام الأشخاص والهيئات، ونبش النوايا والخلفيات. وأصول الشرع تقضي باستئثار الله تعالى بعلم النوايا، والتقحم فيها- بالتالي- رمي بالظن وكلام بغير دليل، وفي المقابل : يجب العمل وتصريحاته المعلنة، واعتبار الاتفاق أو الاختلاف معها أمرا اجتهاديا مبنيا على آراء وترجيحات، وهذا ما يجنب التصنيفات والاتهامات المجانية التي لا رصيد لها. وبعد، فليس ما ذكر إلا بعض ما استدرك على الخطاب السياسي الإسلامي، وكله كما قلنا- لا يلغي إيجابياته في حياة الأمة، وعسى أن نستدرك ما فات، ونصلح النقص، وندرا الخلل، فكل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون.