أحمد هاشم الزغير أبو هاشم ، شخصية مقدسية معروفة في القدس وكافة أرجاء فلسطين، من روّاد المسجد الأقصى المبارك منذ ستين عاماً تغيّرت فيها الأحوال بشدة. إنه رئيس الغرفة التجارية المغلقة بقرار من سلطات الاحتلال الصهيوني كباقي المؤسسات الفلسطينية في المدينة المقدسة، وعضو المجلس التشريعي الفلسطيني السابق عن محافظة القدس، ومن أوائل من وقفوا ضد هدم وتجريف حي باب المغاربة عام 1967، حيث كان منزل عائلته يقع في قلب هذا الحي، وكافح أمام القضاء الصهيوني المتحيز سنوات لإعادة بنائه مرة ثانية، ولكن دون جدوى . روى أبو هاشم لمراسل المركز الفلسطيني للإعلام ، في هذا الحوار المفعم بالشجون والمشبع برائحة التاريخ، قصة تهجير سكان حي باب المغاربة بالبلدة العتيقة من القدس، وتطوّرات قضية القدس منذ سقوط شطرها الشرقي تحت نير الاحتلال، حتى يومنا هذا. ـ بعد ستين سنة على النكبة وأربعين عاماً على سقوط القدسالشرقية، كيف تصف احتلال البلدة القديمة من القدس كأحد سكان حي المغاربة؟ أحمد هاشم الزغير: لقد كنّا قاطنين في حي المغاربة في عقبة أبو مدين، وكانت ملاصقة لجدار المسجد الأقصى المبارك مع حائط البراق مباشرة، ولا يوجد بينهما حجاب، وكان اليهود يأتون ولا يبعدون عنّا أكثر من ستة أمتار لتأدية طقوسهم هناك. وفي مطلع الثلاثينيات بعد ثورة البراق ورفض المسلمين في القدس رفع العلم الصهيوني قرب حائط البراق في باب المغاربة وسقوط عدد من الشهداء والجرحى؛ قرّرت محكمة بريطانية أنّ هذا الجدار هو جدار إسلامي ولا حق لليهود فيه. لباب المغاربة عدة أسماء، وسُمي بذلك لأنّ معظم المواطنين فيه لقرون طويلة كانوا من المسلمين من المغرب العربي، وهم وموجودون مع وجود هذه الأرض. ويوجد بحي المغاربة زوايا، كزاوية علي أبو سعود وزاوية أبو مدين. وكان الطعام والشراب والنوم متوفراً للوافدين لهذه البلدة ومسجدها الذي كان عامراً بالحلقات العلمية والدينية. وبقينا في هذا الموقع إلى أن وقعت الحرب في العام 1967. كان عدد أفراد أسرتي 18 فرداً، وكان لحي المغاربة ميزة خاصة بالسكان وتعامل غريب، فكل جار يطعم جاره طبقاً من الطعام الذي يعده، ولا توجد طبقية بين الناس على الإطلاق، وكانوا موحّدين عقائدياً، ووجود عقلية المرابطة جعل الناس يعتبرون أنهم أمناء على هذه الأرض جيلاً بعد جيلاً. وتوجد مقولة مأثورة يقال إنها لصحابي ليتني كنت تبنة في لبنة من بيت من بيوت بيت المقدس ، فكان وجودنا بالقرب من المسجد الأقصى المبارك نعمة لا تُقدّر بثمن، وفي نفس الوقت كان انتماؤنا يتعاظم وولاؤنا للأقصى يتعزّز، فهذه الأرض مقدسة ومباركة بإرادة ربانية وليس بقرارات البشر. ـ في تلك الفترة هل كانت توجد هناك عائلات يهودية قاطنة في هذا الحي؟ الزغير: إطلاقاً لم تكن هناك أي عائلة يهودية قاطنة هناك. كانوا (اليهود) يأتون من خارج المدينة المقدسة، ولكن عندما وقعت حرب 1967 قامت الجرافات بهدم البيوت بالجملة على أصحابها، غير مهتمين بالشيوخ والنساء والأطفال. وكذلك لحق الهدم بالمساجد والزوايا في المنطقة، وشمل مسجدين وزاويتين ومقامات لأولياء. وخلال أسبوعين تم إخلاء حي المغاربة بشكل كامل. وفي ذكرى مرور أربعين عاماً على هدم حي المغاربة قامت قناة العربية بعمل مقابلة معي، وأحضروا القائد الصهيوني الذي أمر بهدم حي المغاربة، فقال لي: أنا نادم على أنني أمرت بهدم حي المغاربة، فأجبته: إنّ الندم لا ينفع، ولكن يجب إصلاح ذلك بإعادة ما هدمته من البيوت، وعلى المستوى الديني لا يُعقل أن توسع منطقة (ساحة البراق) باسم الدين (اليهودي) على حساب الناس، فالله لا يقبلها أن تكون متصلة به وهي أرض مأخوذة ومسروقة من الغير، وأنا أعتقد أنّ اليهود بعيدون عن الدين اليهودي الأصلي. ـ كم كان عدد سكان حي المغاربة قبل تدميره وإلى أين انتقلوا؟ الزغير: بصراحة لا أذكر بشكل دقيق عدد السكان، ولكن أعتقد أنهم كانوا بالمئات، وفي البداية انتقلوا إلى سوق العتم بالقدس، حيث ناموا في الشوارع فترة زمنية في أسواق البلدة القديمة وفي سوق القطانين تحديداً. وبعد ذلك كل مواطن ذهب بطريقه، ولكنّ الأخطر أنّ من عملوا على تدبير أنفسهم اضطروا لأن يسكنوا في أحياء محيطة بالقدس، وأدى ذلك بالتالي إلى حرمانهم من هوياتهم (المقدسية)، وهذا يُعتبر من التطهير العرقي. فالتآمر يتواصل على الجغرافيا والديمغرافيا والسكان، حيث بلغ عدد البيوت التي تم تدميرها على سكانها في حي المغاربة 1150 منزلاً مع الاحياء المحيطة بها، وهذا الكلام موثق وموجود لدينا. وقمت بسؤال الضابط الصهيوني المسؤول عن هدم البيوت: لماذا الهدم السريع؟ فأجابني: لأننا كنا في نشوة نصر ونريد أن نحضِّر مكاناً للاحتفال، ووجدنا أنّ حي المغاربة هو المكان المناسب بعد احتلالنا البلدة القديمة. فعصر الإنسانية في غفوة وفي غيبوبة، وخاصة الدول الكبرى التي أصدرت قرارات تخصّ القدس. القدس عربية إسلامية، كانت وستبقى، حتى القدسالغربية، لأنّ حوالي 85 في المائة من أراضيها وقفية إسلامية وبعضها مسيحية، وكان فيها 6500 منزل مملوك لعائلات القدس العريقة في الطالبية وفي حي الثوري وفي شارع يافا وغيرها. والكنسيت (البرلمان الصهيوني) الذي يقرّ القوانين والانظمة الصهيونية مقام على أرض عربية اسمها منطقة الوعر. بيتي في حي المغاربة لم يُهدَم حيث تُرِك للعام 1977 لانه كان أول بيت في الحي، وبجانبه مركز للشرطة. فعدم هدمه كان لوجود هذا المركز، وبعد تسع سنوات من الصراع في المحاكم الصهيونية صدر قرار بهدمه، بذريعة أنه متصدع وغير قابل للسكن، وأنه آيل للسقوط. وفي النهاية قاموا بهدمه ولم يجدوا أحداً ينقل أثاث المنزل، وأحضروا موظفين يهود وقاموا بنقله (الأثاث) إلى مخزن وقاموا بتهديدنا بأنّ أجرة المخزن سندفعها نحن. وقد شكرنا كلّ الحمّالين الفلسطينيين بأنهم لم يشاركوا في إخراج وحمل الأثاث من منزلنا تمهيداً لهدمه، نتيجة للظلم والعدوان. ـ وما موقفك الآن..؟! الزغير: مازلت اطالب بمكان البيت وأرضي في باب المغاربة، فكل بيوت الحي كانت أغلبها مملوكة بصفة شخصية، ومؤجّرة. لقد قام اليهود بهدم حي المغاربة لأجل توسيع حائط البراق لكي يقوموا بالصلاة، وهذا الشيء لا يُغتفر، واثناء مكوثي في بيتي فترة تسع سنوات أثناء المحاكم كانوا يضعون حارساً على باب منزلي يقوم بتفتيش كل شيء أجلبه إلى بيتي، فكانت المعيشة مستحيلة. وبعد سنة 1977 قاموا بهدم البيت وإخراجنا منه وانتقلنا بعد ذلك عند الجيران، عند دار أبو عيد، وهم موجودون إلى يومنا هذا في البلدة القديمة. وخرجنا من جوار المسجد الاقصى المبارك إلى منطقة وادي الجوز خارج البلدة القديمة. وبعد هدم حي المغاربة قاموا (سلطات الاحتلال) بترهيب الناس وإجبارهم على الرحيل عن الأحياء داخل البلدة القديمة، وقاموا بتفريغها، حيث كان يوجد أحد أفران الخبز في حوش الغزلان، فحوّلوه إلى مدرسة، وإذا أردت أن تُدخل طوبة (قطعة طابوق) واحدة إلى المسجد الأقصى تقوم الدنيا ولا تقعد. إنّ الصراع في القدس هو ديني وديمغرافي وجغرافي، وصراع تطهير عرقي على أساس محو الهوية بكاملها، وهذا باذن الله لن يحدث. إنّ وضع القدس (يتدهور) منذ العام 1948 كمدينة كانت عامرة، وتوّقف نموها وقصد تدميرها وتغيير ملامحها ووجهها العربي الإسلامي المشرق، وبذريعة تطوير القدس يقلبون (سلطات الاحتلال) الحقائق، ويدمِّرون التاريخ والجغرافيا والتراث. أين أصحاب القوانين الدولية؟! أين مؤسسات الشرعية الدولية وحقوق الإنسان؟! في اعتقادي أنهم غير مهتمين بهذا الموضوع، وممكن أن تصبح شريعة الغاب شريعة عالمية. فمثلاً عندما أتت السلطة الفلسطينية إلى فلسطين بُني مطار غزة والبنى التحتية والكثير من المؤسسات في الضفة الغربية وقطاع غزة على حساب الأوروبيين، فقاموا (سلطات الاحتلال) بتدمير المطار وتدمير العديد من المؤسسات ومعاقبتنا بهدم كل ما بُني تحت شعار السلام، فهذا يدل على أنه لا توجد نوايا سلام عند الطرف الآخر. ولكن من واجبنا في معركة صراع البقاء أن نظل ثابتين على أرضنا وتحسين تربية أولادنا ما أمكن، ونشر العلم بينهم، ولكنّ الأهم من كل هذا أنه يجب أن تكون لنا سيادة، فمعركتنا سيادية، ويجب على العالم أن يكون صادقاً معنا في تحقيق هذه السيادة على الأرض. ـ يتحدث الاحتلال عن توحيد القدس ويحتفل بذلك .. الزغير: ما يتم ادعاؤه عن توحيد القدسالمحتلة هو في عقول هؤلاء (الصهاينة المحتلين) فقط، أما على الأرض فهو غير موجود، والأعمى يدرك كذبهم. إنهم يعملون على تجاهل الواقع العملي، فالواقع أنّ القدس مقسمة ويحرمون الفلسطينيين عبر ممارساتهم وكثرة القيود من حقوقنا المشروعة، وفي مقدمتها حرية الوصول إلى الأماكن المقدسة. فمنذ سنوات عدة لم يُسمح لسكان قطاع غزة بالوصول إلى المسجد الأقصى المبارك، وكذلك سكان الضفة الغربية ما ندر منهم وتمكّن من الحصول على تصريح من الحكم العسكري الصهيوني. حتى سكان القدسالمحتلة تدخّلوا في صلاتهم، ومنعوا (سلطات الاحتلال) الشبان دون سن 45 عاماً من الوصول إلى المسجد الأقصى المبارك في شهر رمضان المبارك وفي أيام الجمعة. إنّ المعركة في القدس هي معركة وجود على الأرض، وأكبر دليل هي هجمتهم على الأراضي ومصادرتها وتصنيفها عنصرياً كمناطق ممنوع البناء فيها وتعطيل بلدية الاحتلال لكل أنواع التراخيص والبناء في القدسالمحتلة. لا يمكن أن يكون هناك استقرار على حساب أخذ حقوق شعب كامل على أرضه ووجوده منذ آلاف السنين، والقدس بلد يُشدّ إليه الرحال، وتوجد لها كفالة ربانية. ولكن يجب أن لا تكون معركة القدس ومعركة فلسطين للشعب الفلسطيني وحده بل معركة الأمة الإسلامية أيضاً، لأنّ القدس والمسجد الأقصى المبارك للمسلمين كافة، وعليهم جميعاً أن يعيدوها إلى حظيرة الإسلام والمسلمين. إنّ الأمر المؤسف لدينا أنّ الاقتصاد حاكم العالم ولدينا أقوى اقتصاد عربي وإسلامي بالعالم (اقتصاد النفط)، ونتساءل: لماذا ليس له قيمة في التاثير على دول العالم؟! لما لا نرى أصحاب الملايين من العرب والمسلمين يستثمرون في القدسالمحتلة كما يفعل مئات اليهود من أمثال موسكوفيش الذي يدعم المنظمات الصهيونية الدينية في شراء والسيطرة على عقارات البلدة القديمة ويبادرون إلى تثبيت المستوطنين في القدس لتهويدها؟!. لا يجوز أن يظل هذا الوطن رهن قرارات ظالمة غير منفذة لحقوقنا، فيجب أن لا يكون تأثيرنا بمجرد مساعدات غذائية بسيطة، لأنّ لدينا الأرض والعطاء وكل ما نتمناه أنّ هذه البلاد إن استقرت وأصبح لها سيادة فسوف يرى العالم أنّ شعبنا عامل يقدِّم ولا يُقدّم له، فالحديث هو عن القدس والأقصى أولى القبلتين مهوى الأفئدة والأرواح. القدس ومسجدها الأقصى المبارك الذي جمع الله عز وجل للرسول صلى الله عليه وسلم جميع الأنبياء في صلاة هي الأولى والأخيرة في بيت المقدس، ومنها عرج إلى السماء؛ ذلك المسجد ألا يستحق التضحية والفداء؟! تلك المدينة الحزينة ألا تستحق المحافظة عليها من هؤلاء الرمم قمامة الشعوب وسوائبها؟!. نحن نتباهي بالرغم من كلّ المعوقات الموجودة، فنسبة التعليم لدينا عالية، ولم يفكر أحد بالرحيل عن هذه الأرض إطلاقا!، فنسبة العودة إلى القدس كبيرة حتى ولو كان ذلك في بيوت مهلهلة بحاجة الى ترميم. ـ هل تفكر في الرجوع إلى حارة المغاربة للبناء والسكن فيها؟ الزغير: نعم، وأنا لا أعتبر ذلك معجزة، فلماذا لا يحدث ذلك؟ إنّ أكثر شي أذكره في حارة المغاربة هو زواجي في سنة 1958، وأسترجع ذكريات الترابط الاجتماعي، فعند وفاة شخص في الحارة كان الناس لا يفتحون المذياع إلاّ بعد أربعين يوماً على وفاته احتراماً لأهل الميت، فكان الناس مختلفون (عن غيرهم)، وكان ترابط اجتماعي، ولم يصدف أن يضرب أحد الآخر، وعندما ترى في الشارع ابن الحارة في وضع مخطئ تقوم بإسكاته فيحترمك مثل والده وأكثر من ذلك، عكس اليوم الذي أفرزه الاحتلال لنا في عدم احترام الآخرين، ولكن بالرغم من كل هذا يظل وضع البلد في خير. إنّ أكبر نكبة أن تكون في أنفسنا، فالنكبات موجودة بخلافات فكرية، فالاحتلال الموجود هو احتلال مبرمج يريد الأرض ولا يريد الإنسان. إنه يريد محو الحضارة العربية والإسلامية مع أصحابها، وإحلال وجوده مكانها، وهذا الاحتلال مدعوم بقوى عظمى في العالم ولها مصالح مع العالم العربي والإسلامي، لكن لا يوجد وزن للعالم العربي والإسلامي واقتصاده في الحل، هذا الموضوع وهذه الارض المقدسة ليست للفلسطينيين فقط بل لكل المسلمين في العالم والعرب. أين العالم المسيحي؟! من أسر كنيسة القيامة؟! فالعالم المسيحي هو القوة الموجودة قي العالم مثل أمريكا وأوروبا، وهذة القوة في العالم تتغاضى عن أثمن شيء مقدّس عندها، فهذا يدل على تواطؤ أكبر منّا كفلسطينين عرب ومسلمين، فيجب أن يكون التفكير في التوحيد وجمع الكلمة والجهد، فنحن بطبيعتنا إنسانيون مؤمنون عكس اليهود الذين يمارسون هواية القتل كشيء عادي، وكذلك القتل في العالم مثل القتل في العراق المسؤول عنه الدول التي تدعي الحضارة والديمقراطية وحقوق الإنسان. سنبقى في القدس مهما اشتدت الخطوب حماةً للمسجد الأقصى المبارك، ولن يثنينا الترهيب والترغيب، وسنبقى هنا منزرعين في مدينتنا ومسجدها المبارك، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وستبقى القدس عربية إسلامية بإذن الله.