كيف ندبر الاختلاف في الرأي أو الموقف أو الاختيار؟ وكيف لا يسقط بعضنا في تخوين الآخرين والتشكيك في نواياهم بمجرد الاختلاف؟ سؤال مؤرق ظل يراودني منذ حوالي اثنين وعشرين سنة، حيث كانت صدمتي الأولى من وقع خطاب التخوين والتشكيك في الآخرين بمجرد الاختلاف. فقد فاجئني أحد المشايخ، من الذين كنا نستضيفهم في إطار الدروس الشهرية بأحد المساجد بألمانيا، فبعد أن انتهى الشيخ من درسه الرفيع الذي كان يحمل دلالات وعبر عميقة، وفي جلسة خاصة مع زمرة من أبناء التنظيمات الإسلامية هناك حيث كنا نسأله عن أحوال الصحوة في البلاد الإسلامية، فانطلق شيخنا المفوه في الخطابة والوعظ يعرض بهذا ويكيل التهم لذاك، ولم يسلم أحد ممن اختلف معهم في الرأي من الدعاة والعلماء، من تهم الخيانة أو العمالة. وقد ظلت تلك الصورة منطبعة في ذهني، وترد علي كلما تعرضت لموقف مماثل حيث تأكد عندي مع مرور الزمن وكثرة الشواهد بأننا أمام ظاهرة حقيقية تحتاج إلى علاج. فعلى سبيل المثال قلما تجد إنصافا في حق من خرج من جماعة إسلامية لسبب من الأسباب، بل غالبا ما تصدر الأحكام الجاهزة في حقه باختياره الحياة الدنيا على الآخرة وتغليبه المصالح الذاتية على مصلحة الجماعة، بل قد يصل الاتهام إلى التخوين. وإذا أردنا أن نتوقف عن بعض الشواهد الدالة، سنجد مثلا أنه في تركيا لم يسلم أوردغان من هذه التهم التي تسمعها من مخالفيه في المدرسة السابقة، وأيضا لم يسلم من ذلك الذين اختلفوا مع الحركة الإسلامية في السودان ممن صاروا اليوم في سدة الحكم، ثم لم تسلم من ذلك الشخصيات التي أسست حزب الوسط في مصر أو التي تحاول ذلك في الأردن. وفي المقابل، قد تجد نفس التعاطي غير المنصف في حق المختلفين من الجهة الأخرى. ففكر أربكان يعتبره مخالفوه متجاوزا، والترابي صار عند معارضيه علمانيا، وجماعة الإخوان المسلمين متهمة بالاستبداد التنظيمي. وهكذا تجد نفسك أمام حالات كثيرة تدل على أزمة حقيقة في ثقافة الاختلاف يعيشها العمل الإسلامي. ولا ترتبط هذه الإشكالية فقط بالتنظيمات الحركية، بل قد تجد تعبيراتها أيضا خ وربما بشكل أسوءخعند الذين لا ينتمون لأي تنظيم، بحيث لا يتوقف الأمر عند الاتهام بالعمالة، بل قد يصل إلى التشكيك في عقيدة المختلف معهم. ومن الملفت للانتباه أن جميع هؤلاء الذين تجد عندهم اختلالا في الحكم على الآخرين عند الاختلاف في الرأي أو الموقف أو الاختيار، يتفقون بشكل عجيب على أن أسباب الاختلاف والفرقة تكمن فقط في اتباع الهوى وضعف الإيمان والتعصب التنظيمي، دون غيرها من الأسباب الأخرى. ويجدر بنا أن نضع هذه التفسيرات على محك التساؤل النقدي: فإذا كانت تلك الأسباب كافية فلماذا لم نستطع بعد علاج الظاهرة وتجاوزها؟ ثم ألا يمكن أن نقف عند تفسيرات أخرى تسهم في علاج المشكل؟ ألا يوجد لدينا تقصير في الأخذ بآليات تدبير الاختلاف كما تعارف عليها الناس في مختلف المجتمعات، والتي ربما كان الخلاف في بعض حالاتها أقوى وأشد؟ إن علاج الظاهرة/ الداء ، ينطلق أولا من الاعتراف بوجودها، واعتبارها تجليا من تجليات ضعف تجربتنا في تدبير الاختلاف، وهي مقدمة أساسية لأجل الارتفاع عن منطق التخوين والنيل من الآخرين. وبالإضافة إلى ذلك، نحتاج إلى تطوير ثقافتنا التنظيمية لتستوعب أساليب تدبير الاختلاف، بالاستفادة مما وصل إليه الكسب البشري في هذا المجال، وخاصة ما يتصل بوضع قنوات لتصريف الاختلاف عبر آليات الديمقراطية والتفاوض العقلاني ومواجهة الأفكار لا الأشخاص، وغيرها من الآليات التي ستسهم في تعميق الأبعاد الموضوعية من خلال الجانب الإجرائي في العملية. إن الأمر الطبيعي والأصلي هو أن يكون أبناء الحركة الإسلامية نموذجا في مقام تمثل معنى الاختلاف رحمة، وذلك بحكم رصيدهم الشرعي وتربيتهم الدينية التي تزكي فيهم تلك الإشراقات التي زخر بها تاريخ المسلمين في تدبيرهم للاختلاف، وبين أيدينا مثلا الإمام الشافعي الذي قدم لنا قاعدته الذهبية في تدبير الاختلاف في الرأي، حين قال: رأيي خطأ يحتمل الصواب ورأي غيري صواب يحتمل الخطأ... فإذا ما استلهم أبناء الحركة الإسلامية هذه الخلفية الروحية العميقة، واتجهوا انطلاقا منها إلى تطوير البنيات والآليات التي تسهم في تدبير الاختلاف، دون الركون إلى التفسيرات السهلة التي تربط الظاهرة فقط بضعف الإيمان وإتباع الهوى وغيرها من المقولات الجاهزة التي قد تكون في بعض الحالات صحيحة، حينئذ يمكن أن يرتفعوا إلى ذاك المقام المنشود الذي لن يكتمل إلا إذا تم الأخذ بمختلف الأبعاد السننية الاجتماعية والتنظيمية في تدبير الاختلاف كما تبلورت في الاجتماع الإنساني. وفي المحصلة، فإن الحوار والتدبير العقلاني للاختلاف حاجة موضوعية وضرورة حضارية، للحيلولة دون سيادة ثقافة التخوين والتشكيك، التي تنتهي إلى أن يحيد المجتمع عن الصواب، وينهار مقوم أساسي من مقومات العمران البشري، ويكون ذلك باعثا على خراب وتدهور العلاقات الإنسانية والاجتماعية، وبروز التناقض الفكري والنفسي في شخصية الإنسان. إن الأخذ بآليات الحوار العقلاني البناء كفيلة بتوفير أجواء النقاش الموضوعي لمختلف الآراء والحفاظ على الشخصية الاعتبارية لأصحابها، وبناء الشخصية المتوازنة القادرة عل القيام بمهام النهوض الحضاري .