تناولنا في مقال سابق كسب الحركة الإصلاحية الإسلامية في القرن التاسع عشر، وتقديمها لأجوبة توفيقية وتجاوزية عن الأسئلة المقلقة في المجال السياسي (الشورى) والمجال التشريعي(وضع مدونة الأحوال الشخصية لأول مرة في تاريخ المسلمين من طرف محمد عبده)، ويهمنا اليوم مسألة روح التوفيق وخلق منفذ نحو التجاوزية، لذلك اخترنا الديمقراطية وعلاقتها بالمنزع المعرفي، والإدراك السياسي عند الإسلاميين المعاصرين. والحقيقة أن الدافع وراء هذا الاختيار هو إبقاء الإسلاميين على مساحة غائمة حول الديمقراطية، بحيث لم يعد القبول بها غامضا عند التيار المعتدل، لكن النظرة حول الموضوع ليست واضحة تماما. فاستقبال ذهنية الإسلاميين للديمقراطية لم يكن سهلا، رغم ما قدمه أسلافهم من قبول جزئي لها، بل أدخلت في دائرة الكفر ومنازعة حاكمية الله تعالى عند المودودي ومن شايع فكره؛ ورغم أن أعلاما عظاما في القرن العشرين مثل مالك بن نبي ومن بعده خالد محمد خالد، ومحمد الغزالي دافعوا عن الديمقراطية، فإن الإسلاميين الحركيين التحقوا فكريا باليسار العربي الرافض لحكم الشعب، وبمنهج الأنظمة المستبدة بالدين أو الحداثة. مع بداية الثمانينات، أصبح التيار التوفيقي ظاهرا في مربع الإسلاميين رافعا شعار الشورى والقبول بالديمقراطية كآلية من آلية الحكم، وتداول السلطة عبر الانتخابات. وقد عرف هذا التيار انتقالا فكريا هائلا مع التحاق العلامة الكبير يوسف القرضاوي في كتابه فتاوي معاصرة بالقابلين للديمقراطية، وأصبحت كتابات فهمي هويدي حول الإسلام والديموقراطية، والشورى والديمقراطية لحسن الترابي... وكتابات محمد مهدي شمس الدين، ومحمد حسن الأمين حول علوية سلطة الأمة على سلطة الدولة.. تجد بعض التجاوب الذي توسع بشكل ملفت خلال العقد الأخير من القرن العشرين. في المغرب لم تترك كتابات العلامة علال الفاسي، وحسن الوزاني مساحة غائمة حول الديمقراطية. ومع عالم المقاصد المغربي أحمد الريسوني، انتقل منذ حواره مع مجلة الفرقان العدد,37 وفي كتابه حكم الأغلبية في الإسلام دراسة اصولية، والشورى في معركة البناء الحضاري إلى مناقشة جوهر الديمقراطية، متجاوزا منبتها الحضاري الموصوف بالغربي. وعموما يمكننا التأكيد أن التجربة التاريخية أوضحت: 1ـ إن الديمقراطية، جمع ولست مفردا، ولذلك تتغير من ثقافة إلى أخرى ويبقى جوهرها عملياتيا، فهي في العمق نظرة إيديولوجية للحياة؛ ومن ثم فليست علما، كما أنها لا تمتلك قواعد علمية صارمة بحيث يضيع جوهرها بضياع القواعد، وإنما تمتلك مبادئ ناتجة بالأساس عن أشكال اتفاقية في الاجتماع السياسي. بصيغة أكثر تفسيرية، فالديمقراطية مظهر خارجي لعملية الحداثة التي انبثقت أول مرة تحت العباءة الدينية وهذا ما يفسر احتفاظها بالقيم الإنسانية العليا للمسيحية واليهودية؛ وهذا بدوره يفسر الربط الميكانيكي القائم بين الديمقراطية وكل من العدالة والحرية والمسؤولية. 2 إن مصلحة الإسلام والمسلمين اليوم تكمن في دعم الديمقراطية وليس عرضها بشكل تضليلي يقوض ثقة الأمة في قدرتها على إنتاج أنموذج متجاوز للأقنوم الديمقراطي الغربي، ويجعل قدراتها المجتمعية رهينة للحاكم المستبد بالسلطة، تحت درائع متهاوية أمام تطورات الفكر السياسي المعاصر، وتنظيراته المؤكدة على الأحقية الكاملة الأمة في التولية والعزل والتنظيم في جميع المسؤوليات العامة. فقد استطاع الفقيه قديما والمجتمع الإسلامي تاريخيا مواءمة الشريعة مع التراث الحضاري للشعوب التي تعرضت للفتح الإسلامي،( وكانت قريبة العهد بالكفر)، مما أسهم في إغناء الحضارة الإسلامية معرفيا وقانونيا وتنظيميا. 3 إن الأصوات الإسلامية الداعية للاستفادة الجزئية من الديمقراطية تعبر عن أزمة الفكر الديني الإسلامي المعاصر الذي لم يستوعب كلمة القرآن الكريم ومهيمنا عليه، فالهيمنة هنا هيمنة على القيم الدينية العليا للمسيحية واليهودية، وبالتالي فلا مانع من الأخذ بالديمقراطية وتهذيبها وتحسين شروط ممارستها، وبناء نظام إجتهادي مؤسساتي قادر عن مقارعة النظم الديمقراطية الغربية، وتجاوزه عن طريق تمكين للقيم الإسلامية من بلورة ممارسات ممأسسة ومسنودة من القاع الثقافي المتدين للأمة؛ بهذه الطريقة وفقط يمكن تقوية الأمة ضد الدولة المستبدة بأمر المسلمين، ورفضه هذا المسلك إنما هو: أس- دفاع عن الإستبداد تحت ذرائع لا تخرج عن أدبيات الفكر السلطاني المستعمل للدين في منحى يقوي السلطان ويقامر بمستقبل للأمة؛ بس- اعتبار الديمقراطية منتوج غربي صرف، وهذا خطأ تاريخي قاتل عممه التحيز الغربي في التأريخ الحديث والمعاصر، فقد شهدت الحضارات القديمة صيغ متنوعة من تداول الرأي والسلطة قبل وبعد اليونان، مما يعني إن الديمقراطية منظومة تتطور في شكلها و مضمونها وفق تطور حضارة معينة. أن الديمقراطية في فلسفتها هي تبن للعدل والإنصاف، وما أقبل الناس عن الإسلام إلا لعدله وإنصافه؛ أما مسألة الاقتباس فإننا نقول مع العلامة احمد الريسوني، في كتابه الشورى في معركة البناء الحضاري( ص165و2007 166) أن ذلك نهج إسلامي أصيل، وسنة نبوية، وسنة من سنن الخلفاء الراشدين.. وسواء سمي ذلك ديمقراطية، أو أساليب ديمقراطية، أو اقتباسا ديمقراطيا، أو نهجا ديمقراطيا، فالعبرة بالمسميات لا الأسماء، وبالمعاني لا بالألفاظ وبالمحتويات لا بالمصطلحات وبالمقاصد والجوهر، لا بالوسائل والمظاهر.