خلصنا في المقالة السابقة إلى أن فلسفة الأطوار والمراحل المتداخلة التي تحكم الظواهر الطبيعية (مرحلة النشأة، مرحلة الصعود، مرحلة الأوج والازدهار، مرحلة الأفول، مرحلة الكمون) هي ذاتها تحكم منطق تطور الظواهر الحضارية والتاريخية والمجتمعية، والحركة الإسلامية باعتبارها ظاهرة حضارية ومجتمعية تخضع لنفس تلك الفلسفة، ومقتضاها أن الحركة الإسلامية لا تعيش مرحلة صعود مستقلة عن مرحلة الأفول والتراجع، بل تلك القوانين كامنة في جميع الأحوال. وإن شئنا أن نستحضر مثالا حول هذه المسألة، لكانت تجربة جماعة الإخوان المسلمين بغناها ورصيدها التاريخي الهام أكثر دلالة على ما نقوله، فقد عرفت طور التأسيس مع الشيخ حسن البنا بأفكارها المؤسسة، شروطا مختلفة عن طور التضييق الذي مارسه النظام الناصري على الجماعة، ثم دخلت الجماعة طورا جديدا خلال فترة السادات عرفت فيه مراحل صعود وأوج وتراجع، وبالتأكيد أن الجماعة قد دخلت طورا جديدا اليوم أهلها لتكون المنافس السياسي الأول في معارك الإصلاح المجتمعي، والثابت ضمن هذه التجربة الطويلة أن الجماعة قد مرت بأطوار، وأن كل طور قد عرف مراحل في النمو، لا يمكن أن نفهمها فقط ضمن ثنائية الأفول والصعود الحدية. ولذلك فالحركات الإسلامية ذات المنهج التجديدي، لا تهتم بسؤال الصعود، دون الوعي بقانونين الأفول، ولا تهتم بسؤال التراجع، دون العناية بعوامل الصعود من جديد، بل هي تهتم أكثر بالبحث في كيفيات تفاعلها مع شروط وقوانين تطورها صعودا أو أفولا بطريقة تركيبية. وفي هذا الصدد ينبغي الانتباه إلى أن مرحلة الصعود والنجاح في سلم تطور التنظيمات، يقتضي الاشتغال وفق المنهجية الاستيعابية، عن طريق تدارك أي فتور أو تراجع مهما بدا صغيرا أو بطيئا وعدم الانشغال فقط بالنجاحات والطمأنينة للخيارات، ، مما سيسهم في تحقيق آفاق أوسع في الكسب والعطاء والاجتهاد، تحافظ على المكاسب في مرحلة ما يمكن الاصطلاح عليه ب قمة الصعود وتمديدها، خاصة وان هذه اللحظة هي الأخطر في حياة التنظيمات البشرية، وعدم القدرة على تمديدها قد يؤدي إلى النزول المفاجئ. وفي المقابل، ينبغي الانتباه إلى أن مرحلة التراجع، تقتضي عملا استثنائيا لاستعادة المبادرة وتجنب حالات الإحباط والانهيار والاستسلام، ؛ فالاستعداد النفسي والتربوي يقوم على تثبيت معاني الصبر والأمل والحافزية، ، مما يسهم في تأكيد حقيقة أساسية وهي أن التراجع ليس حتميا وليس أبديا، بل يمكن التغلب عليه، ببذل المزيد من الجهد وتطوير القدرات والاستعدادات، أما الاستعداد الفكري فيستلزم عملية تجديد شاملة في الأفكار والوسائل والمنهجيات، بهدف عدم الارتهان لنفس عوامل الصعود في الطور السابق، لأن القاعدة تقتضي أن لكل طور عوامل صعوده وعناصر أفوله. إن هذه الاستعدادات الفكرية والنفسية ، تمكن التنظيمات من الاستئناف السريع لوظيفتها وحيويتها وفعاليتها ، خاصة وأن مرحلة التراجع يتبعها مباشرة كمون يسبق مسارين حتميتين؛ إما الزوال بالنسبة للحركة التي لا تجدد ذاتها بشكل مستمر، وإما استئناف الصعود بالنسبة للحركة التجديدية التي تقوم على التواضع والمراجعة المستمرة للتجربة وعناصر القوة والضعف. وإذا حاولنا أن نصف الوضعية الحالية لحركة التوحيد والإصلاح ، فيمكن أن نتكلم عن مرحلة صعود في طور التنظيم الرسالي، بعد انتهاء طور التنظيم الجامع الذي امتد خلال الثمانينيات والنصف الأول من التسعينيات . وتعتبر الوحدة الاندماجية بين تنظيمين إسلاميين نقطة انطلاق طور الرسالية الذي شكلت فيه المشاركة السياسية رافعة نوعية للتفاعل مع الخصوصية المغربية، وانعكس ذلك بشكل عميق على الإستراتيجية التنظيمية للحركة والتي تبلورت ضمن ما نسميه فكرة التخصصات.. وكما شرحت ذلك في السابق، فإن مرحلة الصعود في حالتنا، تقتضي العمل على إطالة المرحلة في أفق الدخول في دورة جديدة في العمل الإسلامي التجديدي، وفي ظل هذا الوعي التاريخي دخلت الحركة منعطف التخطيط الاستراتيجي ليصونها من التفكير بمنطق اليومي، وأطلقت مبادرة السؤال، التي تسهم في الوقوف عند التحديات الكبرى والتفكير في سبل الاستجابة لها، واستباق كل حالات الانسداد قبل وقوعها، أو لتجاوز حالات التراجع المتوقعة التي قد تظهر بعض بوادرها، وهو ما حاولت ندوة مجلس الشورى الأخيرة ملامسته من خلال تقييم خيار المشاركة السياسية والنظر في آفاق هذا الخيار وسبل تطويره. وهي كلها آليات تنطلق من منهج المراجعة والتجديد والتطوير المستمر، وتبتغي تحقيق المزيد من العطاءات والمكاسب، تفاعلا مع مرحلة الصعود والعمل على تمديدها، واستباقا لمرحلة الأفول والعمل على تقليصها. وهي رهانات لا يمكن تحقيقها إلا بتقوية عملية إعداد وتخريج العضو الرسالي المتفاعل بشكل إيجابي، مع تلكم المراحل (صعود أم أفول) والمنخرط بإرادة قوية وتفاؤل في النجاح.