صح أن نسمي هذه السنة بعام الحزب العمالي، فبعدما فشلت جولات الحوار الاجتماعي، وبعدما رفضت المركزيات النقابية العرض الهزيل التي تقدمت به الحكومة، لم يعد للعمال وهم يستقبلون عيدهم سوى أن يستعدوا لشحذ أصواتهم وينزلوا إلى الشوارع ليرفعوا كعادتهم، لكن هذه المرة بدرجة أقسى وأشد، شعارات التنديد بحكومة تتعلل بالموازنات المالية والإكراهات الاقتصادية لتبرر عجزها الكبير عن تصحيح اختلال التوازن الاجتماعي الناتج عن الزيادة المهولة في الأسعار واستقرار الأجور منذ زمن طويل. لكن، بلا شك، هذا العيد العمالي سيكون له وجه آخر، إذ لم يعد الهم الشاغل بعد وقوع حريق معمل الدارالبيضاء، هو مسألة الزيادة في الأجور وتحسين الوضعية الاجتماعية للعمال، وإنما الأمر صار يتعلق ابتداء بحياة العمال وشروط سلامتهم. من المؤكد أننا سنشاهد هذه السنة في عيد العمال نعوشا مرفوعة على أكتاف العمال، وستختلط الشعارات بالدموع، والكلمات بالنحيب، ومن المؤكد أيضا أن مفردات جديدة ستدخل عالم الشعارات والمطالب، إذ ما القيمة التي يمكن أن تكون للزيادة في أجر إن كان الموت أو تشويه الجسد أوتفحمه شبحا يراود العمال في كل حين. من المؤكد بعد الحريق أن العمال سيطالبون بفتح الأبواب ونبذ الشبابيك وتكسير الحصار المفروض عليهم في بنايات المعامل، وسيكون من بين مطالبهم أيضا ملء قارورات الإطفاء السريع، بل وسيكون من أهم محاور نضالهم أن تتزود المعامل بممرات للإغاثة يتوسلونها في حالة الحرائق والأعطاب. هو عام الحزن، بعد أن تنصلت الحكومة من كل ما تضمنه تصريحها من وعود في المجال الاجتماعي، وبعد أن لم يبق للعمال سوى أن يذوقوا مرارة الموت وهم ينظرون. هل كان غائبا على حكومة عباس الفاسي أن الباطرونا لا تكتفي بنبذ قانون الشغل ونسف كل الاتفاقات الموقعة، وإنما يمتد ظلمها إلى درجة إذلال العامل وحرمانه من حرية الكلام بدعوى أن ذلك يبطء عملية الإنتاج؟ هل كان غائبا على حكومة عباس الفاسي أن بعض أرباب المعامل والمصانع يمنعون العاملات من حقهن في الإنجاب، وإذا ما تجرأت واحدة منهن على الحمل تعرضت لنهر شديد، وطولبت أن تأتي في يوم الغد بعد أن تضع حملها؟ وهل يغيب على سعادة الوزير الأول، وقد كان وزيرا للشتغيل، أن أكثر عمال المعامل لا يتوفرون على ورقة إدارية واحدة تثبت أنهم عمال؟ ماذا ستصنع الحكومة بعد أن تأكد بأن أغلب العمال المحترقين والمتفحمين، بل والموتى منهم غير منخرطين في صندوق التضامن الاجتماعي، بل ولا يمتلكون أي ورقة إدارية تثبت أنهم عمال؟ الموت حق على كل مسلم هذه هي العبارة العقدية التي ستسمعها عائلات الضحايا بشكل مكثف، وقد يسمعون أن الحكومة ستقوم بتعويض هؤلاء، وقد يسمعون أن تحقيقا قد فتح لتحديد المسؤوليات ومحاكمة المتسبب في هذا الحريق، بل وقد نسمع أن الحكومة ستصرف تعويضا استثنائيا للضحايا، لكن ما أن يمر فاتح ماي، وتبرد الخواطر، وتسكن الجراح حتى يتبخر كل شيء، وتعود الحكومة إلى تفعيل منطقها النفعي والبراغماتي في التعامل مع الباطرونا: هؤلاء يشغلون المئات والآلاف، وإذا ألزمناهم بمقتضيات القانون، فسيعمدون إلى إغلاق معاملهم، والضحية الكبرى ستكون هي طبقة العمال الواقع، أن الحكومة حتى وإن فتحت تحقيقا، وحتى وإن حددت المسؤوليات، وحتى وإن تعرفت على المسؤول الحقيقي عن إضرام الحريق، فإن الذي ينبغي أن يحاسب حقيقة هو منطقها الذي يتساهل في مسألة تطبيق القانون، ويتساهل في اشتراط شروط السلامة، ويغض الطرف عن إذلال العامل وإهانة كرامته، بدعوى أن الحكومة إن لم تفعل ذلك، فإن مصير المعامل الإغلاق. فلتغلق المعامل إن كان الثمن هو حقوق الإنسان وكرامته، وليذهب أرباب المعامل الرافضين لتطبيق القانون إلى الجحيم إن كان الثمن أن نرى جثثا متفحمة كواها لظى الحريق مثل ما رأينا في الدارالبيضاء. لست أدري أي مضمون للحداثة والديمقراطية سيكون عليه المشروع المجتمعي الذي تتنادى إليه الحكومة إن كان منطقها هو أن تداس حياة العمال وكرامتهم وأن تشوه جثثتهم وتتفحم أمام العالم؟ لست أدري كيف ستبرر الحكومة للعالم أسباب الحادث؟ وما الحيلة الذكية التي ستلجأ لها لتتنصل من مسؤوليتها؟ وما الوجه الذي ستحمله وهي تواجه صرخات العمال ونحيبهم في عيد الحزن العمالي؟