مرة أخرى تعود بعض النقابات لتلوح بالإضراب بعدما رأت في تقديرها الخاص أن الحوار الاجتماعي قد فشل. و خلال الجولة الأولى من الحوار كانت هذه النقابات قد رفضت العرض الحكومي، و كان أن تحملت الحكومة مسؤوليتها السياسية و أعلنت عن قرارات جد ايجابية في صالح الطبقة العاملة و الموظفين ، إذ خصصت 16 مليار درهم لتحسين الوضعية الوظيفية و المادية لهؤلاء ورفعت الدخول في القطاعين العام والخاص بنسبة تتراوح ما بين 10 و22 في المائة. و شرعت في تنفيذ التزاماتها ابتداء من 2008، وتابعت أجرأة تعهداتها في يناير 2009. لقد مثلت 16 مليار درهم نسبة 75 في المائة من مجموع ما تم تقديمه خلال 13 سنة أي منذ انطلاق الحوار الاجتماعي سنة 1996، وأجمع العديد من المحللين و الهيئات و المؤسسات الوطنية و الدولية أن المغرب قام بمجهودات كبيرة للحفاظ على القدرة الشرائية للمواطنين و تحسين الأجور خصوصا إذا علمنا أن الحكومة خصصت 35 مليار درهم سنة 2008 لدعم المواد الأساسية و33 مليارا برسم سنة 2009 ، وذلك في ظل أزمة اقتصادية عالمية جد صعبة . فالعرض الحكومي كان جيدا بشهادة حتى النقابات نفسها بل وثمنت المجهودات الحكومية في ظل هذه الظرفية الصعبة في عدة مناسبات ، لكن مع الأسف عكس هذه الشهادات هو ما كان يصرح به لوسائل الإعلام . لكن لماذا لم تقبل النقابات العرض الحكومي ؟ ولماذا تصر على التلويح بالإضراب في ظل هذه الظرفية بالذات ؟ إن قراءة متأنية للوضع السياسي الحالي يجعلنا أمام معطيين أساسيين: الأول هو أن المغرب مقبل على العديد من الاستحقاقات الانتخابية، كالانتخابات الجماعية و انتخابات الغرف المهنية وانتخابات ممثلي المأجورين.... و بالتالي فلكل حساباته السياسية، و الكل يريد أن يسجل بعض النقاط لصالحه ، وفي اعتقاد البعض فان أقصر طريق لكسب التعاطف و الأصوات هورفع شعار الإضراب بل لاحظنا تهافت بعض النقابات للإعلان عن الإضراب. المعطى الثاني، و يرتبط بالثقافة النقابية التي أصبحت تبتعد شيئا فشيئا عن الواقعية ، هذه الثقافة التي كانت بالأمس تعتبر مجرد إجراء الحوار مع الأطراف المعنية هو في حد ذاته مكسبا، أصبحت اليوم تضرب في العمق مأسسة الحوار الاجتماعي الذي كان أحد المطالب الأساسية لها والتي استجابت لها الحكومة . أصبحت بعض النقابات لا يستهويها سوى التلويح بالإضراب كأولى الأوراق التي يتم توظيفها، بعد ما كان بالأمس آخر الأوراق، و هكذا و من فرط استعمال هذا الحق المشروع أصبح يفقد رمزيته و هيبته بل و حتى قدسيته. و كثرة الإضراب كما يقال تقتل الإضراب. و إذا استحضرنا بعض المعطيات الموضوعية، سنلاحظ أن الانتماء النقابي بالمغرب لا يشكل سوى 8% و بالتالي فان نسبة العمل النقابي تبقى ضئيلة جدا مقارنة مع باقي الدول. كما أن نسبة المشاركة في الإضرابات التي دعت إليها إحدى المركزيات النقابية مؤخرا لم تتجاوز 4 % . نحن لا نسوق هذه المعطيات للتشفي في العمل النقابي، بل على العكس من ذلك تماما، نورد هذه الحقائق لننبه أن العمل النقابي بالمغرب في حاجة إلى تجديد للرؤية ، و إلى ثقافة جديدة على ضوء المتغيرات التي يعرفها العالم اليوم، مع الأخذ بعين الاعتبار المعطيات الموضوعية الداخلية. فحري بنا أن نتساءل هل من المستصاغ أن تبقى النقابات تعتبر أرباب العمل و الحكومة خصوما ينبغي قلب الطاولة عليهم ؟ أم أن النقابات ينبغي أن تغير من ثقافتها من ثقافة المواجهة إلى ثقافة المشاركة ؟ هل أصبح من المستصاغ أن تبقى أجندة العمل النقابي محصورة في الزيادة في الأجور فقط أم ينبغي أن تتوسع لتشمل المساهمة في التنظيم و الإنتاج ،و تحسين مجال العمل وأساسا في ضمان استمرارية العمل ؟ وهل أصبح مطلب الزيادة في الأجر بنسبة 30 في المائة مطلبا واقعيا في ظل هذه الظرفية العالمية الصعبة التي أصبحت معها الآلاف من المقاولات في العالم تغلق أبوابها وتسرح العمال أم أن الواقعية تفرض أولا الحفاظ على مناصب الشغل المتوفرة ؟ إننا لسنا بمنأى عن تداعيات الأزمة المالية والاقتصادية العالمية التي أصبحت تهدد كل الدول ، فحسب منظمة العمل الدولية فإن العالم سيفقد 51 مليون وظيفة بنهاية العام الحالي وسيرتفع معه معدل البطالة إلى 7.1 في المائة بعدما لم يكن يتجاوز في سنة 2007 نسبة 5.7 في المائة . في المغرب بادرت الحكومة ، في إطار سياستها الاستباقية ،إلى تكوين لجنة اليقظة الاستراتيجية مكونة من عدد من الوزراء الهدف منها إيجاد الآليات الكفيلة بضمان استمرارية الشغل بالنسبة للمقاولات المغربية التي تشتغل في قطاعات إنتاجية بعينها كالنسيج والجلد وصناعة أجزاء السيارات وسيتم الإعلان عن قرارات مهمة في الأيام القليلة المقبلة الهدف منها ضمان استمرارية مناصب الشغل بالنسبة للعمال من خلال دعم المقاولات التي تواجه إكراهات الأزمة المالية والاقتصادية العالمية وهو ما يترجم وجود رؤية واضحة لدى الحكومة والشجاعة السياسية لمواجهة والتصدي لإكراهات الأزمة الاقتصادية العالمية والحد من تداعياتها على النسيج الاقتصادي والاجتماعي المغربي تماما كما فعلت خلال سنة 2008 عندما اتخذت قرارات جريئة للحفاظ على القدرة الشرائية للمواطنين لمواجهة ارتفاع الأسعار في الأسواق الدولية . لكن في المقابل نتساءل هل الحقل النقابي المغربي يملك تصورا وإيجابات حول تداعيات هذه الأزمات على المغرب ؟ هل يملك المشهد النقابي رؤية للحفاظ على مناصب الشغل والحيلولة دون إغلاق المصانع ودون تسريح العمال جراء الأزمة الاقتصادية والمالية العالمية ؟ هل طالب بمناقشة الموضوع في إطار الحوار الاجتماعي ؟ لعل هذه الأسئلة وغيرها لا تحظى بأهمية في أجندة العمل النقابي ، في الوقت الذي أصبح فيه البعض لا يحسن سوى سياسة الهروب إلى الأمام ورفع شعار الإضراب . أعتقد أننا في حاجة إلى انتقال نقابي على غرار الانتقال السياسي، الانتقال من نقابة مواجهة إلى نقابة مشاركة، و من ثقافة الرفض المطلق إلى ثقافة أكثر واقعية عملا بمبدأ "ما لا يؤخذ كله لا يترك كله" فالمغرب اليوم بقدر ما يحتاج إلى مقاولة مواطنة، يحتاج كذلك إلى نقابة مواطنة و مشاركة ليس فقط في البناء الديمقراطي، و لكن أساسا في الاوراش التنموية التي يعرفها المغرب، وفي دينامية التغيير في المجتمع ككل. إن أحد الرهانات الأساسية لمغرب المستقبل هو كيفية إنتاج نموذج فعل نقابي رصين لا يرقى فقط للاستجابة لمطالب العمال و الموظفين، و لكن يستجيب كذلك لانتظارات النسيج الاقتصادي الوطني ما دامت المقاولة لا تستطيع الاستمرار بدون القوى العاملة و ما دامت القوى العاملة لا تستطيع الإنتاج إلا في ظل المقاولة، و نفس الأمر بالنسبة للعلاقة التي تربط الموظف بالإدارة. فالجميع له مسؤوليات و التزامات، لكن الجميع يتفق أن المسؤولية الكبرى هي اتجاه الوطن و المواطنين.