يتشكل الخطاب الدعوي من آيتين اثنتين: الترغيب والترهيب، وبتصفحنا للقرآن الكريم وللسنة النبوية نجد طغيان آيات الترغيب على أخواتها من الترهيب، ويذهب أبعد من ذلك ابن عباس رضي الله عنه حينما قال: الفقه الرخصة أما التشدد فيتقنه كل أحد. أن تبحث عن طرق التيسير أكثر من بحثك عن سبل التعسير دليل على حسن استيعاب المقاصد التشريعية للإسلام. والداعية هو بمثابة الطبيب الذي تجد في محفظته وصفات للأمل التي يفتح بها نوافذ الحياة والرجاء حتى للمشرف لا محالة على الهلاك. اتباع قاعدة التيسير المنضبط إن قاعدة التيسير غالبا ما تكون تلك العقبة الكؤود للداعية، النزول منها يكون أسهل من صعودها، بخلاف التعسير والتشديد الذي تكون طريقه غير مكلفة ومتعبة لكن نتائجه غالبا ما تأتي بالويلات. وذلك بسبب بسيط مفاده أن الميسر بضوابط يحتاج إلى عملية شاقة في بعض الأحيان كجمع النصوص القرآنية والحديثية إلى بعضها البعض مع الأخذ بعين الاعتبار أسباب النزول والورود مع إعمال القواعد الذهبية في التعامل معها دون إغفال المقاصد والحكم التشريعية والبحث في مدى تطابقها مع النموذج الذي يعيشه المدعو أو المخاطب سالكا في ذلك سبل التدرج والترتيب. التدرج وترتيب الأهداف المتأمل في كيفية نزول القرآن وفي تسلسل أحداث السيرة النبوية يتضح له أن الإسلام كان يعيش زمانه وعصره بحداثة لا نظير لها، وبذلك لم تكن هناك أزمة لا في الخطاب ولا في أساليبه ووسائله، بحيث تم التركيز على الإقناع والمجادلة بالتي هي أحسن مع تقدير ظروف الناس وجدة تعلقهم بمعتقداتهم وعاداتهم، الأخلاق الحسنة التي كانت موجودة كالكرم والوفاء والصدق والشجاعة... زكاها الخطاب الدعوي ونماها خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا الحديث. وفي المقابل نجده يتغاضى عن بعض العادات والأخلاق السيئة إذا تبين له أن ذلك سيفرق أكثر مما يجمع وسيبعد أكثر مما يقرب وسيكون حائلا دون وصول الكلمة الأصل والرسالة الكبيرة ألا وهي ترسيخ الاعتقاد الصحيح باعتباره المحدد في اختيارات الشخص وتصرفاته، لذلك كانت المرحلة المكية(13 سنة) خالصة لهذا الصنف من الخطاب الدعوي دون الخوض في مسائل ربما تكون سابقة لأوانها. ما أحوجنا نحن اليوم إلى إعادة ترتيب أولويات الخطاب وأهدافه مع مراعاة المرحلية والتدرج ليس على أساس استنساخ التجربة النبوية بشكلها التحقيبي ولكن استنارة بمقاصدها وأحكامها فلكل زمان ومكان خطابه ودعوته. وليس كمثل ذلك الشخص الذي التقى بشخص آخر يدعوه إلى الله، فبادره المدعو بالحديث عن ضريح فلان بإعجاب منقطع النظير مع ذكر كرامات ذلك الولي وكيف يعرف إقبالا متزايدا وان جميع الحوائج تقضى، لكن صاحبنا الداعية قاطعه قائلا: لو كان الأمر بيدي لقمت إلى هدم ذلك الضريح. وبذلك توقف الحوار وانتهت معه حرارة اللقاء الذي كان في وسع صاحبنا أن يوظف ذلك في خدمة مهمته وذلك بتعزيز الثقة بينهما مع ترسيخ معنى العبادة الحقيقية بالطرق التي يفهمها المدعو دون اقتحام غرفة النشوة التي يعيش فيها جراء إعجابه بذلك الضريح وليترك للزمن حصته في معالجة ما يمكن علاجه لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية لأمرت بالبيت فهدم فأدخلت فيه ما أخرج منه ... جزء من حديث رواه البخاري. فقه المصالح والمفاسد درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة، هكذا قرر علماء أصول الفقه الإسلامي، وذلك من حيث اعتبار أن الضرر الذي تحدثه المفسدة يكون من شأنه تقويض أحد المقاصد / الكليات الخمس التي جاء الإسلام لحراستها وحمايتها وبذلك يكون مقدما على المصلحة باعتبارها إضافة إلى الرأسمال الذي يملكه المسلم. والخطاب الدعوي هو مطالب بفقه هذه القاعدة، أي أن يقدر معنى المفسدة والمصلحة ثم يقدم درء الأولى على جلب الثانية. في أسلوب الخطاب الدعوي لقد بين القرآن الكريم الإطار العام للأسلوب الذي ينبغي أن يكون عليه الخطاب الدعوي، وذلك بقول الله تعالى: (أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحس)، النحل- 125 إذن هناك ثلاث محطات أو مواصفات لأسلوب الخطاب: ـ الحكمة: هي وضع الشيء في مكانه، ومعنى أن تكون حكيما أن تصيب في غير النبوة كما جاء في شرح فتح الباري لابن حجر العسقلاني، ومن الحكمة في الدعوة ما يلي: ـ تحديد نقطة البداية في الخطاب، مدخل الخطاب / بوابة الدخول إلى فضاء المدعو قد لا تكون دائما مفتوحة/ ليس بالضرورة أن يكون استهلال الخطاب بتلك المقدمة (في بعض الأحيان تكون طويلة) من قراءة القرآن وحمد وشكر حتى تفوت الفرصة بسبب من الأسباب الموضوعية كأن تخاطب شخصا في محطة القطار ـ احترام اختيار الوقت والمكان ـ انتقاء الموضوع المناسب بعد التعرف على احتياجات المدعو وأسئلته الراهنة. ـ الموعظة الحسنة: ـ مجالها يكون دائما التذكير والوعظ والإرشاد وإيقاظ الهمم، يقول الله تعالى: فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمصيطر والموعظة الحسنة تقتضي أن جوهر الرسالة التي يحملها الداعية معروف لدى المدعو، وكل ما يقوم به إنما هو إزالة تلك الغشاوة التي تكون قد خيمت على قلب المدعو وإخراجه من عالم الفتنة والظلمة التي يعيشها. ـ الموعظة الحسنة هي اتباع لأحسن الأقوال مع التودد واللطف في التعامل مع المدعو لكسب استجابته. ـ الموعظة الحسنة تجعل الداعية ينطلق من المنطلق الإيجابي للمدعو أي التركيز على النقط والخصال الحميدة الإيجابية مع التغاضي على السلبيات والعثرات إذا تبين أن في ذلك خدمة للدعوة الإسلامية عموما، كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول دائما: اللهم أعز الإسلام بأحد العمرين: عمر بن الخطاب أو عمر بن هشام تقديرا منه للخصال الإيجابية التي كانت تتوفر فيهما. ـ المجادلة بالتي هي أحسن: وهي حلقة أخرى من حلقات الخطاب الدعوي وتنحصر مهمتها في مقارعة الحجة بالحجة والدليل بالدليل، لأن استجابة المدعو تكون متوقفة على إعطاء مفاتيح لأسئلة عالقة ومحيرة ومعادلات غامضة. وهذا ليس في متناول جميع الدعاة، لذلك ينصح بعدم الدخول في مثل هذه المجادلات إلا للذي يملك رصيدا يؤهله لذلك. وتبقى مجادلة بالتي هي أحسن إذا استطاع الداعية أن يفرق بين الانتصار للذات والانتصار للحق الذي يدعو إليه. والمجادلة بالتي هي أحسن تحتاج إلى بعض الآداب نذكر منها: ـ لننطلق من المشترك بيننا وبين من نجادله. ـ لنوسع دائرة الاتفاق مع العمل على تضييق دائرة الخلاف ـ ليس كل ما نعرفه ينبغي أن نقوله بالضرورة. ـ لا نتعدى بالقول أو الفعل. ـ لا نحمل الكلام ما لا يحتمل. ـ أن نسلم للحق ونحسن الظن ـ أن نعرض عن الجدال إذا تبين أنه لن ينفع. أمثلة ووقائع: 1 ـ في أحد البلدان العربية كانت جماعتان من الناس اختلفوا في عدد ركعات صلاة التراويح أهي عشرون ركعة أم ثمان، حتى كادوا أن يقتتلوا بعد اتهام بعضهم البعض.ذات يوم دخل عليهم أحد الدعاة إلى الله فالتجاوا إليه يسألونه في الأمر، والقوم كله ينتظر ما يقوله الشيخ، أدرك هذا الأخير أن جوابه سيكون سببا في إثارة الفتنة لانه سينتصر لأحد الفئتين بالضرورة.فبادرهم بالسؤال التالي: هل الأخوة فريضة أم ماذا ؟ قالوا فريضة أمرنا أن نحرص عليها. فقال لهم أيضا: وهل التراويح فريضة أم سنة ؟قال الجميع بلسان المتأكد الضابط: سنة بطبيعة الحال.فقال لهم بالله عليكم من الأولى أن نحافظ عليه هل الاخوة وكل واحد يصلي ما أطمئن إليه دليله، أم العداوة والاقتتال ؟فاقتنع الجميع ورتبوا ميزان تقديرهم للأشياء من جديد. 2 ـ أحد المسيحيين سأل أحد الدعاة إلى الله، لماذا يتزوج المسلم من المسيحية واليهودية، ولا يتزوج المسيحي واليهودي من المسلمة؟ فقال الرجل بكل بساطة وبلغة فتحت قفل ذلك السائل: لأن المسلم يؤمن بعيسى وموسى وبكتبهم التي أنزلت عليهم، في حين أن المسيحي واليهودي لا يؤمنوا بمحمد ولا بكتابه.