غالبا ما تحتاج الهيئات والمنظمات، بعد وضع الخطط الاستراتيجية، إلى الجرأة الكافية لاعتماد التحولات والتغييرات الأساسية، وكذا الشجاعة اللازمة لتجاوز ردود الأفعال المقاومة للتغيير. غير أن الدخول في مسار التحول قد تصاحبه بعض المشاكل والأعراض الجانبية التي تشوش على المضي فيه، والتي يتخذها الرافضون للتغيير أو المتخوفون منه، ذريعة للدعوة إلى التراجع. وهنا يحتاج رواد التجديد إلى العمل بعقلية الطبيب الذي يقوم، بعد تشخيص المرض، بوصف الدواء المعالج مثل مضاد حيوي. ورغم أن استهلاك هذا المضاد تنتج عنه أعراض جانبية، إلا أن الطبيب لا يتراجع عن وصفه، بل و يؤكد على ضرورة استعماله طيلة مدة العلاج، وبالمقابل يعمل على وصف أدوية أخرى للحد من مضاعفاته وآثاره السلبية. فأين تتجلى الأعراض الجانبية في الخيارات التي اتخذتها الحركة الإسلامية؟ وكيف نستفيد من عقلية الطبيب في معالجتها؟ ذلك ما سأحاول الوقوف عنده من خلال مثالين دالين : الأول: خيار المشاركة السياسية للحركات الإسلامية، والثاني : إقدام حركة التوحيد والإصلاح على تبني سياسة التخصص. ففي الحالة الأولى تكشف تجارب الحركات الإسلامية عن جهود كبيرة بذلت في بناء مسار المشاركة السياسية، والتي انبنت على مراجعات فكرية وحوارات عميقة ونقاشات حيوية انتهت إلى المفاصلة مع خيار عدم المشاركة ومقاطعة المؤسسات. وأنا هنا أطرح هذا المثال لأنبه إلى الأصوات التي تنادي مؤخرا بضرورة التخلي أو على الأقل مراجعته خيار المشاركة في بعض البلدان العربية، وخاصة في الأردن ومصر وفلسطين وأيضا في المغرب، بدعاوى مختلفة، كنتائج الانتخابات الأخيرة في الأردن وما أسفرت عنه من تراجع لعدد مقاعد التيار الإسلامي هناك، بغض النظر عن حصول التزوير أو عدمه، وما تعانيه فلسطين من صراع داخلي وتجويع وحصار، وكأن سببه هو مشاركة حماس سياسيا، ثم التساؤل عن جدوى مشاركة الإخوان المسلمين في برلمان مصر وقيادة الجماعة تتعرض لمحاكمات عسكرية، ثم الحديث عن تراجع عدد الأصوات المحصل عليها في الحالة المغربية. أريد التنبيه إلى أن كل تلك الدعاوى ربما اقتصرت على التحليل التجزيئي والظرفي للنتائج مما يتناسب وتحليل الفاعل السياسي المباشر، لكن إذا تجاوزنا هذه الدائرة و اجتهدنا في تطوير تحليل كلي ينظر إلى الحالة الإسلامية السياسية في شموليتها وكيف ساهمت في إخراج الصحوة الإسلامية من واقع الهامشية حتى صارت في قلب المجتمع حاضرة في التدافع الجاري داخله ، ثم لو انتبهنا إلى المعطيات التي تؤكد كل يوم مشاريع التكالب في الداخل والخارج ضد تيارات المشروع الإسلامي المشاركة في الحقل السياسي والمجتمعي، سيتأكد لنا الحضور الحيوي والتاريخي للحركات الإسلامية المشاركة باعتبارها أمل الأمة في التغيير والإصلاح. أعتقد أن الذين أقدموا على المشاركة السياسية أو خططوا لذلك، قد أدركوا منذ البداية أن هناك ابتلاءات وتحديات صعبة وأعراض جانبية ستظهر في الطريق لا محالة، لكن لم يثنهم ذلك عن خوض غمار هذا المسار لعمق إدراكهم أن تلك سنة الله في خلقه. فدور القيادات الإسلامية ليس هو استدعاء خطاب النكوص والتراجع عن الخيارات الإستراتيجية، بل هو تقويم المسار لتثبيت المكتسبات ومعالجة الأعراض الجانبية لبلوغ المقاصد المرجوة، وفي نفس الوقت الاجتهاد في إبداع الحلول الضرورية. وفي المثال الثاني، فقد عرفت حركة التوحيد والإصلاح مراجعات في فكرها الاستراتيجي انتهى إلى اعتماد سياسة التفاعل المجتمعي والانفتاح الرسالي، وكان من بين آليات تكريس هذه السياسة بناء ما عرف في أدبيات الحركة بسياسة التخصصات التي تم بمقتضاها تفويت بعض مجالات عملها لهيئات متخصصة تصبح شريكة مع الحركة الأم، حيث ساهم كل ذلك في توسيع المجال الحيوي للمشروع المجتمعي للحركة. وفي طريق تنزيل هذا الخيار كان طبيعيا أن تظهر أعراض جانبية، وخصوصا على مستوى مفهوم الشراكة والاستقلالية في العلاقة بين المشروع العام والتخصصات المستحدثة. فإذا كانت الشراكة في أصلها لا تعني القطيعة، بحكم التعاون والتنسيق والاعتماد المتبادل بين الحركة الحاملة للمشروع العام ومجال التخصص الجديد، فإنه في بعض الحالات يظهر فهم ضيق للمسألة يقوم على الاعتزاز بالإطار الجديد وبأنه الأهم بالمقارنة مع باقي التخصصات والمجالات الأخرى، وندخل في منطق الجزر المجالية التي تتفاضل في الأهمية، حتى يصير بعض العاملين في التخصصات يجدون حرجا في إظهار علاقتهم بالحركة الأم. والنتيجة الأسوء لهذا المنطق هو أن يتحول التخصص إلى مؤسسات أشخاص فاقدة للبوصلة والاتجاه غير مندمجة في مشروع مجتمعي رغم ما يمكن أن تحققه من منجزات رقمية وآنية. إن كل ما سبق يحدث لدى أبناء الحركة حالة من ردود الفعل تجاه الخيار الجديد برمته، حيث تتعالى بعض الأصوات بالعودة إلى الصيغة القديمة التي تقوم على الضبط والوصاية والمركزة التنظيمية، غير أن المعالجة الأسلم وفق عقلية الطبيب تقتضي تجديد الفهم والتصور واعتبار أن التخصص ليس بديلا عن المشروع العام، بل هو ممثله في مجال اشتغاله، بناء على قاعدة التعاون والتنسيق في إطار الاستقلالية وشراكة واضحة. وفي المحصلة فإن ضمان التوازن بين ما كان و ما ينبغي أن يكون، باعتبار الأول مكسبا والثاني حلما ، يتطلب إبداعا في آليات الاستيعاب التي تصون مسار الخيارات الإستراتيجية من النكوص والتراجع، وهو ما يستلزم أن لا تتحول الأعراض الجانبية إلى جوهر الاهتمام أو تصبح مبررا للسلبية والتشكيك في مجمل المسار ، كما يستدعي التعامل بعقلية الطبيب الذي يعطي للآثار السلبية حجمها الطبيعي ويجعل منها أيضا هدفا للمعالجات الشاملة التي يقترحها.