امريكا ليست وحدها المسكونة بهاجس الفزع من الانتقام المحتمل لتنظيم القاعدة أو نشاط غيرها من المنظمات المتطرفة، المسماة بمنظمات الإسلام الجهادي المسلح. لكن أوروبا عموما، وفرنسا خصوصا، تعيش الهاجس نفسه. وإن كان بطريقة مختلفة ومفهوم مختلف، خصوصا وأن أوروبا لها تاريخ قديم وطويل من المواجهة التعايش مع الإسلام والعرب والمسلمين. وإن كانت إسبانيا قد اضطلعت بالدور القديم في هذه العلاقة المركبة المعقدة، فإن فرنسا تضطلع الآن بالدور الحديث، خصوصا وأنها أكبر دولة أوروربية تضم في الوقت الحالي خمسة ملايين من العرب والمسلمين، بين60 مليون فرنسي. حوادث ودلالات من هذا المدخل نفتح ملف الإسلام وفرنسا، أو ملف المسلمين اللائذين بفرنسا بلد الحرية والمساواة والإخاء، ولن يكون ذلك بعيدا بالطبع عن ظلال الحملة الأمريكية خصوصا، والغربية عموما، ضد الإسلام والمسلمين والعرب، الذين وقعوا ضحية الإرهاب مرتين: مرة من جانب المنظمات المتطرفة التي تخفت وراء شعارات إسلامية، ومرة ثانية من جانب الغرب الأوروبي الأمريكي، الذي انقض عليهم بقسوة عاتية، وتحديدا بعد هجمات سبتمبر على نيويورك وواشنطن، التي أعادت إحياء روح الصدام والمواجهة بين الإسلام والغرب! في الأسبوع الماضي شهدت باريس، أكثر من حدث له دلالة في اتجاه الملف الذي نعالجه اليوم، نتوقف أمام أهمها: شددت قوات الأمن الفرنسية حملاتها لمطاردة من تسميهم الإرهابيين العرب والمسلمين، المعروفين سلفا أو الكامنين، وألقت القبض على خلية إرهابية من المغاربة، الأمر الذي أحاطته وسائل الإعلام الفرنسية بهالة مبالغة من التضخيم، فضلا عن زيادة روح العداء والكراهية ضد العرب والمسلمين الذين صاروا فرنسيين بحكم التجنس بعد الهجرة أو الميلاد! في الوقت نفسه كانت وزارة الداخلية الفرنسية، قد أعلنت أنها توصلت إلى إقامة تنظيم إسلامي موحد، يضم المنظمات الإسلامية الخمس الكبرى في فرنسا، لكي تتمكن الدولة الفرنسية من التعامل مع كيان أو مؤسسة إسلامية رئيسية، تتحدث باسم خمسة ملايين مسلم يشكلون الديانة الثانية بعد الكاثوليكية... وفي هذا يقول الكاتب الفرنسي الأصل، المصري المولد، آلان جريش، رئيس تحرير لوموند دبلوماتيك الشهيرة، إن قضية الإرهاب والإسلام أصبحت مشكلة حقيقية في أوروبا وفرنسا، إذ يشعر كثيرون أن هناك خطرا إسلاميا عالميا، وخطرا إسلاميا داخليا، الأمر الذي أدى إلى توتر شديد في الرأي والمناخ العام، مثلما أدى إلي تشديد حملات المداهمة والمطاردة الأمنية، ولذلك تحاول الدولة تنظيم أمور المسلمين الفرنسيين في شكل مؤسسة رئيسية تتحدث باسمهم في كل مجال ويتم انتخاب قيادتها بنسبة60% وتعين الدولة40%، والمسلمون الفرنسيون في حاجة لذلك حتى تتوحد جهودهم من ناحية، وحتى تنظم الدولة علاقتها بهم من ناحية أخرى، والمعنى عندنا نحن هو أن تحكم قبضتها عليهم، على غرار تنظيم اليهود في فرنسا، الذي بدأ تاريخيا في عصر نابليون بونابرت، ولهم الآن منظمة دينية تتحدث في شؤون الدين فقط، ومنظمة ثانية تعنى بالشؤون العامة، السياسية والثقافية والاجتماعية للجالية اليهودية، ويتراوح عدد اليهود الفرنسيين مابين400 ألف و600 ألف، فلماذا لا يفعل المسلمون مثلهم... الحدث الثالث، تمثل في النشاط الثقافي الذي يشهده مقر معهد العالم العربي، الواقع على نهر السين في قلب باريس، المطل على كاتدرائية نوتردام التاريخية الشهيرة، والذي أقيم قبل أكثر من خمس عشرة سنة بتعاون فرنسي عربي... في الأسبوع الماضي، افتتح المعهد معرضا فنيا تاريخيا فريدا من نوعه عن الحصان العربي والفروسية العربية وأخلاقها للغرابة ويضم لوحة فنية تخيلية نادرة لرحلة الإسراء والمعراج، ويقول عنه مدير المعهد النشيط الدكتور ناصر الأنصاري: >إننا نقدم بهذا المعرض الفني وغيره من النشاطات الثقافية والسينمائية والأدبية رسالة إلى الفرنسيين والأوروبيين، هي رسالة الفكر والفن والعلم والثقافة العربية والإسلامية الأصيلة ذات الإسهام الهائل في تكوين الحضارة الأوروبية ذاتها، وذلك في مواجهة الصورة السلبية المشوهة التي تقدم الآن خالطة العرب والإسلام والمسلمين بالإرهاب والتطرف والتخلف! لم يكن الحدث الرابع بعيدا عما سبق، أي أن تشتعل من جديد في الفضاء الفرنسي الرحب الحملة الصهيونية باسم مكافحة العداء للسامية، تلك الحملة التي طالت من قبل الفيلسوف الفرنسي روجيه جارودي وطالت جريدة الأهرام، وهاهي تطارد هذه الأيام الصبية مصرية الأصل إيطالية الجنسية رانده غازي 15 عاما، لأنها نشرت بالإيطالية رواية عن معاناة الشعب الفلسطيني في ظل الاحتلال والقهر الإسرائيلي، الأمر الذي فجر الانتفاضة الفلسطينية ودفع بالفلسطينيين إلى الاستشهاد حتى بتفخيخ أنفسهم دفاعا عن شعبهم ووطنهم... حركة صهيونية على الفور تحولت المنظمات الصهيونية الفرنسية إلى منصة إطلاق الصواريخ ضد الرواية ومؤلفتها وكل المصريين والعرب والمسلمين، بل ضد دار النشر فلاماريون، التي تجرأت ونشرت ترجمة فرنسية لهذه الرواية التي تمجد وتشيد بالعمليات الانتحارية وتشجع على قتل اليهود كما تدعي هذه المنظمات! ومثلما ارتفعت صرخات وضغوط أكبر وأهم منظمتين يهوديتين فرنسيتين، هما منظمة ليكرا أو الرابطة الدولية لمناهضة اللاسامية، ومنظمة سيمون فيزنتال ضد الرواية ومؤلفتها الصبية، وبالغت فيما أسمته الحملات المصرية والعربية المحرضة على كراهية وقتل اليهود ومعاداة السامية، تردد الصدى سريعا وصاخبا، ليس في دوائر الإعلام والثقافة اليمينية الفرنسية فقط، بل سبح سريعا عبر المحيط إلى الولاياتالمتحدة، لتتلقفه منظمات اللوبي الصهيوني الأمريكية الأشهر والأقوى، خصوصا بناي بريث وإيباك ورابطة مكافحة التشهير وغيرها، لتمارس هوايتها في بث الكراهية للعرب والإسلام! والهدف بالغ الوضوح، هو التغطية على جرائم الحرب الإسرائيلية، جرائم إبادة الشعب الفلسطيني، التي باتت تتسلل خجولة إلى بعض وسائل الإعلام الغربية، فتكشف قليلا مما هو مخبوء من جرائم ضد الإنسانية، وضد السامية العربية الحقيقية والأصلية، التي صارت في ظل تدهور أحوالنا، في موضع الدفاع الدائم عن النفس، وبشكل مهترئ، أمام الهجوم الصهيوني الغربي.. وصار المطلوب من كل منا أن يثبت لإسرائيل والصهيونية العالمية وللغرب أنه غير معاد للسامية، بل إنه صديق لليهود حتى لو كانوا من الإسرائيليين النازيين الذين يبيدون الشعب الفلسطيني، ويقتلون أطفاله عمدا صباح مساء بدم بارد وأمام شاشات التلفاز، وبشهادة الضمير الأوروبي، الذي لم يستيقظ بعد، وفي ظل ترسانة من القوانين التي صدرت خصوصا بعد الحرب العالمية الثانية، وفي ضوء نتائج محاكمات نورمبرج الشهيرة، مثل قانون جيسو الشهير الذي يعاقب كل من يعادي أو يحرض على العنصرية وكراهية السامية، أو يشكك في نتائج هذه المحاكمات! حتى في فرنسا إذن، بلد الحريات وحقوق الإنسان وحرية الفكر والصحافة والثقافة والاعتقاد والعلمانية والتنوير، مازال شبح مقصلة الثورة الفرنسية التاريخية قائما بعد مضي أكثر من قرنين من الزمان، ذلك الشبح المتمثل في مثل هذه القوانين التي تعاقب باحثا أو مفكرا أو حتى فليسوفا مشهورا بوزن جارودي على مجرد إعمال عقله ومحاولة إثبات رأيه المخالف في أي شأن يمس قضايا صارت قديمة وتاريخية، مثل المحرقة النازية لليهود، أو عدد ضحاياها، ستة ملايين أو أكثر أو أقل، ومثل التعرض لجرائم الحرب التي يرتكبها الإسرائيليون الآن ضد الشعب الفلسطيني الأعزل، باعتبار التعرض لها يمثل تحريضا ضد اليهود!! ضجيج وتحريض مقابل ذلك يعلو ضجيج التحريض ضد العرب والمسلمين، وإثارة الكراهية للإسلام كدين سماوي، والمبالغة المثيرة في تصوير العرب كبرابرة والمسلمين كوحوش شرسة يفطرون على جثث الأطفال ويتغذون بالرجال ويتعشون بالحريم، ويعادون الحضارة الأوروبية المستنيرة والمتقدمة، لأنها حرة ومتفوقة عليهم بالعمل والثقافة والأخلاق والمبادئ، ولذلك يصدرون إليها الإرهاب والإرهابيين، الذين يجب على أوروبا مثل أمريكا مطاردتهم وتصفيتهم فورا.. ورغم أن الاشتباك التاريخي بين الحضارة العربية الإسلامية وبين أوروبا قديم، إلا أنه متعدد الاتجاهات متناقضة الأفكار في أحيان كثيرة، بحكم اختلاف العقائد والرؤى والمصالح، مما أوقع مواجهات ساخنة وصراعات مسلحة هائلة، خصوصا في العصر الأندلسي صعوده وسقوطه وفي العصر الامبراطوري العثماني، وكلاهما غزا أوروبا المسيحية من الغرب ومن الشرق عسكريا، مثلما غزاها ثقافيا وفكريا وحضاريا، حتى ردت أوروبا الحديثة بالثأر والانتقام بالاستعمار والهيمنة والاستنزاف والصهيونية والاستشراق الذي زين الواقع والتاريخ والدين... إلا أن الواقع الراهن بكل متناقضاته يحمل من جديد رياح بعث وتأجيج العداوات القديمة من مراقدها الغابرة، الأمر الذي يتحمل مسؤوليته طرفان: نحن وهم، وإن اختلفت درجات المسؤولية ونسبها... يبالغون هناك في التخويف من الخطر الإسلامي الهاجم على أوروبا عبر حدودها الجنوبية، سواء بملايين المهاجرين الفقراء المحبطين اليائسين، أو بالأفكار المتخلفة من وجهة نظرهم والعقائد التي يتوهمون أنها تحض أتباعها على جهاد الكفار وقهر الصليبيين واليهود !! وهم في أوروبا يطرحون أمامنا مئات النماذج والوقائع من القنبلة الموقوتة التي تسمى مسلمي أوروبا نحو 15 مليونا إلى شبكات الإرهاب وعملياتها الإرهابية في أوروبا خصوصا في فرنسا وألمانيا وصولا للترويع من تكرار ماحدث لأمريكا العظمى في هجمات شتنبر الانتحارية الدموية!! الإسلاموفوبيا إذن لم تعد مقصورة على أمريكا، لكنها عبرت المحيط إلى أوروبا، أو العكس، ولم تعد أيضا مقصورة على مبالغات الصحف وشبكات التليفزيون بكل قدراتها علي الإثارة والمبالغة والتخويف من الخطر الإسلامي القادم، بل إن مئات الكتب التي تتناول هذا الموضوع المثير المخيف صارت الأكثر مبيعا، تساندها الندوات والمؤتمرات في مراكز البحوث والجامعات والمحافل الأكاديمية... والعنوان واحد... أصبح شائعا! ويستطيع الباحث المتابع أن يلتقط عشرات الكتب من أي مكتبة من تلك التي تزخر بها باريس مثلا، قليل منها فيه قليل من الموضوعية، أما معظمها فيصب في اتجاه واحد، هو الخطر الإسلامي، الإرهاب الإسلامي، الأصولية الإسلامية.. يستطيع الباحث أن يقرأ مافيه الكفاية عن الإسلاموفوبيا في كتب مثل كتاب الحوار بين الإسلام واليهودية، أو كتاب الجهاد في أوروبا، أو كتاب شرائع الله وقانون الإنسان وغيرها كثير كثير.. غير أننا نتوقف بسرعة أمام كتاب أحدث وأكثر تعبيرا عن حالة الإسلاموفوبيا في فرنسا، وهو كتاب الإسلام والجمهورية الفرنسية الخامسة من إصدار دار جاليمار الشهيرة وتأليف كل من جان هيلان كالتنباخ وميشل تريبالا، وهذه لها كتاب سابق بعنوان: فرنسا... حظ الإسلام، على أن الكتاب الذي نتوقف أمامه كما قلنا: الإسلام والجمهورية الفرنسية، يحمل فكرة رئيسية مضمونها أن الجمهورية الخامسة مهددة في صميم تكوينها العلماني التحرري بسبب تسلل الإسلام حاملا إليها قيمه المعادية في تصورهم للحرية والعلمانية واستقلال الدولة عن سلطان الدين، وفق أفكار المفكرين الفرنسيين العظام أمثال فولتير وروسو وكل رواد الثورة الفرنسية الكبرى! وبدلا من هذه الأفكار الثورية الديمقراطية يقول الكتاب فإن ملايين المهاجرين المسلمين والعرب خصوصا من أهل المغرب العربي الكبير قد تغلغلوا في فكر وعصب الجمهورية الفرنسية الراهنة، ونقلوا إليها ما يعبره المؤلف الفرنسي بالسوس، الذي بات ينخر فيها عبر العقائد والعادات والتقاليد الاجتماعية المناقضة للثقافة الفرنسية المتحررة، ومن خلال مظاهر الصلاة في المساجد وارتداء الحجاب في المدارس والمؤسسات الفرنسية، ونشر الآراء والأفكار في الصحف والكتب والتليفزيون، الأمر الذي لاقى تفهما وحتى قبولا وتشجيعا من بعض فئات المجتمع الفرنسي، ومهد الطريق لوصول بعض الفرنسيين ذوي الأصول العربية والإسلامية، لمناصب وزارية وحكومية بارزة.. ثم يأتي بعد ذلك التحذير من تنامي هذه الظواهر... وتلك هي فكرة الكتاب ومحوره.. نحن المقصرون وبينما يجري ذلك هناك، نكتفي نحن على الضفة الأخرى من البحر بإحدي استجابتين، إما بممارسة فضيلة الصمت والتجاهل من شدة الكسل والسلبية والتراخي، وإما بإبراء الذمة، باستسهال توجيه الاتهام الجاهز، إنها حرب صليبية صهيونية جديدة!! وفي الحالتين نحن مقصرون، نمارس التخاذل والتراجع أمام هذا التحدي الحضاري الهائل، المحمل بمواجهات ساخنة، وبقدرات تعايش وحوار سياسي اجتماعي ثقافي، لنا ولهم مصالح متبادلة في تنشيطه وتنميته، بشرط التوازن والاحترام المتبادل، بعيدا عن بث الكراهية في العقول والقلوب... فمن يبدأ بتعليق الجرس.. نحن أم هم؟!! بقلم: صلاح الدين حافظ