يحكى أن الدكتور عبد الله العروي الكاتب والمفكر والمؤرخ قرر مغادرة ساحة العمل السياسي بناء على نتائج أول وآخر مشاركة له في انتخابات 1977 التي فاز فيها عليه بدون تزوير ! بائع إسفنج من عامة الناس ! ربما جاز لنا أن نتساءل بنوع من التجريد عن أسباب انتصار الإسفنج على الكتاب؟ غير أنه في هذا السياق ليس المهم أن نتساءل عن أسباب قوة الإسفنج الذي تطعم به البطون..بل الأجدى أن نتساءل عن أسباب عجز الكتاب عن إطعام العقول..! أو بعبارة أقسى : لماذا انقلب البطن عقلا إسفنجيا وصار العقل بطنا لا كتاب فيه..؟ ولماذا فقد العقل الكاتب صلته بواقع تمرد عليه إنكارا وهزمه استصغارا ؟ نترك الجواب عن هذا السؤال لكل قارئ لبيب بعد تأمل هذا النص البديع من مقال في العبودية المختارة le discours de la servitude volontaire لصاحبه إتيان دو لا بويسيه المولود في القرن السادس عشر ..والذي صادف قراءتي له اطلاعي على خبر صاحب الإسفنج وانتخابات 1977 ..فوقع في روعي أن بين النص مع التصرف علاقة ورباط ..فتأمل رعاك الله: >.. شيء واحد لا أدري كيف تركت الطبيعة الناس بلا قوة على الرغبة فيه: الحرية التي هي مع ذلك الخير الأعظم والأطيب حتى إن ضياعها لا يلبث أن تتبعه النواكب تترى وما يبقى بعده تفسده العبودية وتفقده رونقه وطعمه. الحرية وحدها ما لا يرغب الناس فيه لا لسبب فيما يبدو إلا أنهم لو رغبوا فيها لنالوها، حتى لكأنهم إنما يرفضون هذا الكسب الجميل لفرط سهولته! يا لذل الشعوب فقدت العقل ويا لبؤسها ..يا لأمم أمعنت في أذاها وعميت عن منفعتها ..تسلبون أجمل مواردكم وأنتم على السلب عيان ..تتركون حقولكم تنهب ومنازلكم تسرق وتجرد من متاعها القديم الموروث عن آبائكم ! تحيون نوعا من الحياة لا تملكون فيه الفخر بملك ما حتى لكأنها نعمة كبرى في ناظركم لو بقي لكم النصف من أملاككم وأسركم وأعماركم ..وكل هذا الخراب ..هذا البؤس وهذا الدمار يأتيكم على يد أعدائكم بل يأتيكم يقينا على يد العدو الذي صنعتم كبره والذي تمشون إلى الحرب بلا وجل من أجله ولا تنفرون من مواجهة الموت بأشخاصكم في سبيل مجده (..) أنى له بالعيون التي يتبصبص بها عليكم إن لم تقرضوه إياها ؟ وكيف له بالأكف التي بها يصفعكم إن لم يستمدها منكم ؟ أنى له بالأقدام التي يدوسكم بها إن لم تكن من أقدامكم ؟ كيف يقوى عليكم إن لم يقو بكم ؟ كيف يجرؤ على مهاجمتكم لولا تواطؤكم معه؟ أي قدرة له عليكم إن لم تكونوا حماة للص الذي ينهبكم ..شركاء للقاتل الذي يصرعكم ..خونة لأنفسكم ؟ تبذرون الحب ليذريه ..تؤثثون بيوتكم و تملأونها حتى تعظم سرقاته .. تربون بناتكم كيما يجد ما يشبع شهواته ..تنشئون أولادكم حتى يكون أحسن ما يصيبه منهم جرهم إلى حروبه وسوقهم إلى المجزرة ولكي يصنع منهم وزراء مطامعه ومنفذي رغباته الانتقامية..تتمرسون بالألم كيما يترفه في مسيراته ويتمرغ في ملذاته القذرة وتزيدون وهنا ليزيد قوة وشراسة ويسومكم بلجامه ..كل هذه الألوان من المهانة التي إما البهائم لا تشعر بها أو ما كانت تحتملها يسعكم الخلاص منها لو حاولتم لا أقول العمل عليه بل محض الرغبة فيه . اعقدوا العزم ألا تخدموا تصبحوا أحرارا ..فما سألتكم مصادمته أو دفعه بل محض الامتناع عن مساندته ..فترونه كتمثال هائل سحبت قاعدته فهوى إلى الأرض بقوة وزنه وحدها فانكسر!< قلت : عندما لايشتغل المفكر على مبحث الحرية فيكون له في واقع الناس ما يشهد له بالكسب في عتق الرقاب وفضح الذئاب ودفع الخراب ..ثم يلج ساحة النزال فمصيره هزيمة نكراء كهزيمة الإسفنج للكتاب ! فتأمل ! الحبيب الشوباني