هل قضية مس الجن للإنس وتأثر الإنس بصرعات الجن وتهجماته قضية مهمة للغاية إلى درجة أن نخصص لها الكتب والمؤلفات، ونعقد لها الحلقات والندوات، ونبث حولها البرامج التلفزية والإذاعية في الفضائيات والمواقع الإلكترونية؟ تأليف د.مولاي مصطفى الهند-أستاذ باحث بجامعة الحسن الثاني المحمدية قدم له الدكتور حسن كسرى طبيب نفسي أستاذ التعليم العالي مساعد بكلية الطب بالرباط عرض: حسن السرات هذه الأسئلة ومثلها هي التي قام الدكتور مولاي مصطفى الهند بتأليف كتاب حولها تحت عنوان: قضية مس الجن للإنس في الفكر الإسلامي بين الحقيقة والوهم، قال موضحا: كان لي اهتمام خاص بموضوع مس الجن للإنس منذ زمن غير بعيد يسير. وكلما أثير حوله النقاش وأدليت برأيي فيه إلا ويطلب مني توثيقه وتدوينه، غير أني أرجأت الكتابة فيه، اقتناعا أن الوضع الحالي للأمة الإسلامية تتجاذبه قضايا مستعصية تستحق الأولوية في البحث والدراسة. وبقي الحال على ما هو عليه حتى بدأ الدكتور مولاي مصطفى الهند يلاحظ أن هذه القضية أخذت تستشري في أوساط مجتمعنا الإسلامي بشكل كبير، ونالت اهتماما بالغا من العامة والخاصة ودخلت بيوتات كثيرة وأضحت محل نقاش واسع. وبما أن مولاي مصطفى الهند أستاذ جامعي بجامعة الحسن الثاني بالمحمدية فقد لاحظ امتداد أثر قضية المس الجني ليصل إلى رحاب الجامعة، فاتضح له من خلال تواصله المباشر مع العديد من الطلبة وإشراكهم في قضاياهم التربوية والاجتماعية والنفسية حجم المعاناة النفسية التي يتحملها طلبتنا جراء قضية مس الجن للإنس. وقد بلغ الأمر ببعض الطالبات ممن يعتقدن أنهن أصبن بمس جني حد التفكير في الانقطاع عن الدراسة والتفرغ للبحث عن علاج لما ألم بهن من مرض! ناهيكم عن الآثار السلبية لهذه الظاهرة على التحصيل الدراسي والاجتهاد العلمي لعدد من طلاب جامعاتنا ومعاهدنا!! وإضافة لهذا، لاحظ الكاتب أن وسائل الإعلام العامة الواسعة الانتشار أخذت تتناول القضية في برامج حوارية واستطلاعية، ولهذا نهض لكتابة هذا المؤلف. لكنه عندما عاد يستقصي الكتب السابقة واللاحقة وجد أن أغلب تلك المؤلفات والكتابات لا تخلو من ثلاث ملاحظات أولاهن تجنب الإثارو والنقاش الواسع، والثانية التكرار، والثالثة القصور المنهجي. ينقسم الكتاب في نظري إلى قسمين كبيرين، قسم استعراضي استقرائي جمع فيه الكاتب الأقول والآراء عند العلماء والمفسرين المتقدمين والمتأخرين، وقسم تحليلي تفكيكي استخلص فيه الكاتب النتائج وأجاب عن الاسئلة المطروحة سلفا. أما القسم الأول وهو الذي يبدأ من المدخل حيث عرف بمصطلح المس وعرض موجزا عن تاريخه والمؤلفات التي كتبت عنه وينتهي عند المحورالرابع حيث استعرض مواقف العلماء المنكرين للمس (من الصفحة 9 إلى الصفحة 74). بين المس والصرع يمسك الكاتب بنقطة غاية في الأهمية لكونها مفتاح الكتاب كله ومفتاح القضية المطروحة أيضا، وهي حقيقة المس والصرع الفرق بينهما. ذلك أن التباسا كبيرا يقع في الموضوع عند الخاصة، فما بالك بالعامة. ورفع الالتباس ضروري جدا من الزاوية المنهجية، إذ جرت العادة في الكتب المتخصصة والأبحاث الجديدة أن يبادر الكاتب إلى توضيح مصطلحاته أولا، وثانيا لطبيعة القضية المتناولة. رفع الاتباس بين المصطلحين والمرضين قام بهما الكاتب في مدخل الكتاب عندما شرع في توضيح مفاهيمه وكلماته، ثم عاد إليها في المحور الخامس. ويذهب الكاتب بعد بيان وتبيين إلى أن المس مرض نفسي يختص به علماء النفس، أو بالأحرى خبراء النفس، بينما الصرع مرض عضوي من اختصاص أطباء الجهاز العصبي والدماغ. ولذلك يظن أغلب المؤلفين ممن كتبوا في الموضوع أن نسبة كبيرة من المس سببه الجن وأن القلة القليلة منه هي أمراض نفسية، كما يقول الدكتور مولاي مصطفى الهند، ثم يضيف أنهم بهذا كانوا ينصرفون إى الحديث عما يمكن أن يفعله الجني بالإنسي ويؤولون كل ما يقع للإنسان الممسوس على أنه يسكنه جني، وهو سبب معاناته ومشاكله!. المس إذن مرض نفسي، وله اسم آخر أكثر علمية وموضوعية وهو الهستيريا. مرض عالجه خبراء النفس ويعرفون أنه أشكال وأنواع تندرج تحت اسم الاضطرابات التفككية التي تظهر عند المريض كرد فعل تجاه صدمة نفسية، أو نوع من الهروب من مواجهة مشاكل وأزمات نفسية. والمرضى به لا يعالجون بإدخالهم المستشفى أو إعطائهم أية مزايا تزيدهم تعلقا بالمرض، بل تهيأ لهم بيئة العلاج الصالحة في منازلهم ومحل عملهم حتى يقفوا على حقيقة أعراضهم المرضية ويساعدوه على الشفاء.ويؤتي العلاج أكله بسرعة إذا اقتنع المريض بوجود خلل في سلوكه النفسي يحتاج إلى تعديل وتقويم. ويؤكد بعضالباحثين المعاصرين إمكانية العلاج التلقائي دون الحاجة إلى العلاج. قرآن أم إيحاء؟ أقوى محور في الكتاب هو المحور السادس، وهو جوهر الموضوع وعقدته وحله أيضا: علاج المس: هل يكون بالقرآن أم بالإيحاء؟. قبل ان يجيب الاستاذ الباحث يذكرنا بظاهرة انتشار من يصفون أنفسهم ويصفهم الناس تبعا لذلك بالمعالجين الذين يدعون أنهم قادرون على علاج المس وتحرير الإنسان من قبضة الجان وإخراج الجني من قلب الممسوس همهم الوحيد، والقول للكاتب، التصدي لمن يستغلون الدين الإسلامي لممارسة أعمال بعيدة كل البعد عن تعاليم الإسلام وآدابه في علاج الممسوسين. وإن شعار هؤلاء المعالجين أو الرقاة هو علاج المس بالقرآن الكريم دون غيره. ويستعرض الكاتب وسائل العلاج النفسي للمس أو الهستيريا مثل الإيحاء النفسي والتحليل النفسي والعلاج السلوكي والعلاج النفسي التدعيمي والعلاج الطبي للأعراض، ليخلص إلى أن وسيلتي الإيحاء النفسي والعلاج السلوكي هما اللتان تندرج تحتهما ما يمكن تسميته بعلاج المس بطريقة القرآن الكريم أو الرقية. وفسر الكاتب فعل القرآن في المريض وأثره في نفسه بأنه أمر طبيعي لتوفر الشروط الداعية لذلك وهي: 1 المكانة التي يحتلها القرين الكريم في نفس الإنسان المسلم، واقتناعه بأنه يشفي من الأمراض والأسقام. 2 الاحترام الذي يحظى به حامل القرآن وقارئه في وسطنا الاجتماعي. 3 قوة شخصية القارئ للقرآن -أي المعالج أو الراقي- التي اكتسبها من خلال التجربة المتكررة لعملية علاجه وصرعه المرضى الممسوسين. 4 قدرة المعالج على ممارسة عملية الإيحاء النفسي، سواء اعترف بذلك أم لا، وسواء علم أم لم يعلم. 5 توفر قابلية الإيحاء عند المريض الممسوس. 6 شيوع ثقافة العلاج من المس على يد المعالجين بالقرآن الكريم في الأوساط الاجتماعية وأثرها الكبير في نفس المريض، غضافة إلى إشاعة ذكر حالات معينة من العلاج. وأكثر هذه الحالات في البلاد الإسلامية تغلب عليها الإشاعة أكثر من الحقيقة. 7 الدور الذي تقوم به الأسرة في دفع المريض الممسوس دفعا إلى العلاج بالقرآن الكريم. 8 انعدام الوعي بالثقافة النفسية والطب النفسي. 9 ربط علاج المريض الممسوس بالجانب العقدي في الإسلام وحساسية هذا الأمر، بمعنى أن وجود الجن في حياة المسلمين لابد وأن يكون له الأثر في نفوسهم، قل أو أكثر، وعدم التسليم به قد يعد صاحبه من الكافرين بحقيقة وجود الجن! 10 غياب الحد الأدنى من المؤهلات الثقافية والعلمية التي تجنب الإنسان المسلم المريض بأمراض نفسية التفكير في الالتجاء إلى العلاج بطرق سليمة وغير مشروعة. خلاصة لقد خاض الكتاب في حقل مليء بالألغام قاصدا تنقيته منها وتوجيه القراء إلى التعامل بحذر مع ظاهرة العلاج من المس بالطرق الخرافية المسيئة إلى الدين الإسلامي وكتابه الكريم. ومما زاد في قيمة الكتاب التقديم الذي كتبه الدكتور حسن كسرى الطبيب النفسي وأستاذ التعليم العالي المساعد بكلية الطب بالرباط. تقديم ياليته طال وازداد تفصيلا، خاصة أنه من رجل متخصص في مجال علم النفس والطب النفسي. شيء أخير لابد من ملاحظته، وهو استشهاد الكاتب بموقف النسوة اللاتي قطعن أيديهن في قصة يوسف، جاعلا من هذا المشهد برهانا على ما يفعله الإيحاء بالإنسان، في حين أن هذا الموقف ليس موقف إيحاء ولكنه موقف انبهار بجمال يوسف عليه السلام مثلهن في ذلك مثل امرأة العزيز التي راودته عن نفسه بعد أنبهار ذهب بكل القوى العاقلة والقيم الفاضلة، والله أعلم. وما زال الموضوع مفتوحا.