السحر .. الجن.. الصرع والمس مفاهيم غامضة ملتبسة ويستعصى على الانسان العادي فك رموزها أوفهمها، فما بين مصدق لقدرات هذا العالم الخارقة وما بين منكر لها على الاطلاق يتوزع المسلمون. في هذا الحوار مع الدكتور مولاي المصطفى الهند مؤلف كتاب قضية مس الجن للإنس وأستاذ الدراسات الإسلامية بجامعة الحسن الثاني بالمحمدية ورئيس مجموعة البحث في تجديد الفكر الإسلامي وحوار الحضارات، نطرح الأسئلة المحيرة التي نتوق إلى سماع أجوبة عنها. اتسمت علاقة الإنسان بالجن بالغموض والكلام الخلافي، فالبعض يصدق بوجود الجن ويصفه بأوصاف مغالية، في حين أن البعض ينكر وجود هذا العالم وتأثيره على الإنسان، فكيف ترى الأمر؟ إن إيمان الإنسان المسلم بالجن حقيقة ووجودا لا يحتاج إلى مناقشة أو جدال أو مراء، فقد وردت في القرآن الكريم آيات عديدة جمعت بين الإنس والجن في مواقف مختلفة، منها قوله تعالى: (وجعلوا لله شركاء الجنّ وخلقهم). وقوله سبحانه: (وإنه كان رجال من الانس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا). إلى غير ذلك من الآيات القرآنية الواردة في هذا الموضوع. ومن المعلوم في الإسلام أن القاسم المشترك بين الإنس والجن هو الامتثال لأمر الله وعبادته كما ورد في الآية الكريمة: (وما خلقت الجن والانس إلا ليعبدون). فلا مجال لإنكار الجن، ولكن غاية ما في الأمر أن لهم عالمهم الخاص بهم ولنا عالمنا الخاص بنا، وكل من الثقلين ميسر لما خلق له. هل هناك فرق بين الصرع ومس الجن؟ وإن كان فما هو هذا الفرق؟ فصلت البحوث العلمية الدقيقة المتخصصة في الموضوع سواء على المستوى الشرعي أو الطبي، بين المرضين الاثنين: مرض المس من حيث هو مرض نفسي صرف، ومرض الصرع من حيث هو مرض عضوي. ونبه العلماء في هذا الشأن إلى بعض العلاقات والروابط الرفيعة التي تجمع بين المرضين. ومن المعلوم أنه حين يذكر المس والصرع إلا ويرتبطان بالجن، أو ما يسمى عندنا بمس الجن للإنس وصرعه، وهذه قضية تحتاج إلى نظرة تأملية عميقة تخرجها من ظلام الوهم إلى نور الحقيقة. فعلماء الإسلام اختلفوا في هذا الموضوع قديما قبل أن يختلفوا فيه حديثا: فمنهم من قال به، ومنهم من أنكره. وفي تقديري المتواضع ليس من الحكمة أن يقحم الجن في حياة الإنس، ويتحمل مسؤولية ما يقع له من علل ومشاكل وسلوكات مرضية. وقد أوضحت في كتابي قضية مس الجن للإنس تقديري لحقيقة هذه القضية في التصور الإسلامي كما نص على ذلك العديد من علماء السلف والخلف، وهي أن الجن لا يمس الإنس ولا يصرعه ولا يتخبطه، وإنه لا يتحاور معه ولا يصاحبه ولا يتزوجه ولا علاقة له به على الإطلاق، اللهم ما كان في اشتراكهما معا في عبادة الله سبحانه وتعالى. وما قال به بعض أهل العلم في هذا الموضوع هو محض اجتهاد يلزمهم ولا يلزم غيرهم. كيف تفسر التغيرات العضوية التي تطرأ على الممسوس أو المسحور مثل تساقط الشعر، النحافة الشحوب وغيرها؟ أريد أن أشير في بداية الجواب عن هذا السؤال إلى أن الأبحاث العلمية المعاصرة صنفت ما يسمى بالمس الجني ضمن أمراض الاضطرابات التفككية Troubles dissociatifs، والتي تشمل اضطرابات نفسية تظهر عند المريض كرد فعل تجاه صدمة نفسية. أو إن شئنا قلنا إنها نوع من الهروب من مواجهة مشاكل وأزمات نفسية مستعصية لا علاقة للجن بها على الإطلاق، وإنما المتسبب فيها هو الإنسان. ويشير الباحثون في هذا المجال إلى أن مرض الاضطرابات التفككية متميز بالتلون، فأعراضه مختلفة ومتغيرة مما قد يؤدي إلى الخلط في التشخيص، وهذا ما يعني أن المريض يعيش حياة مثقلة ومثخنة بجروح الصراع والعناء النفسيين. وقد يشكو المريض بالاضطرابات التفككية ـ أي الذي نسميه نحن بالممسوس والمسكون ـ من آلام جسمانية متعددة تنتقل من عضو إلى عضو في جسمه، مما يفسر بعض التغيرات العضوية التي تطرأ عليه مثل الهزالة وتساقط الشعر والشحوب وضعف شهية الأكل وغيرها.. كيف تفسر الأصوات التي تصدر عن الممسوس والتي يصدرها الجني مخاطبا المعالج كأن تتحدث امرأة بصوت رجل وغيره؟ إن ما يقع بين المعالج الذي يظن نفسه أنه يعالج المس أو الصرع بالقرآن الكريم أو غيره والمريض الممسوس هو نوع من الإيحاء الإستجوابي الذي يعرف عند العلماء الباحثين في العلوم النفسية والطبية بأنه المدى الذي يتقبل فيه الأشخاص ـ أثناء التفاعل الاجتماعي المحدود والمغلق ـ الرسائل التي يوصلها إليهم أشخاص ذوو مكانة خاصة خلال الاستجواب الإيحائي، مما يؤثر في نفسية الأفراد الممسوسين. وقد يكون الإيحاء الإستجوابي نوعا من تأثير المعلومات الصحيحة في نفس المستجوب، كما أنه قد يكون نوعا من تأثير المعلومات المضللة. والذي يتحكم في المعلومة الصحيحة أو المضللة هو المعالج. وهذا ما نلاحظه في أثناء الحوار الذي يجري بين المعالج وبين أحد المرضى الممسوسين، حيث يقنعه عن طريق الإيحاء النفسي أنه يحاور جنيا بداخله، وأن هذا الجني يتكلم على لسانه. وحقيقة الأمر أن هذا الكلام ليس للجني وإنما هو للمريض نفسه المتواجد تحت تأثير التنويم الإيحائي الذي يُظهر بعض محتويات عقله الباطن. وهذا ما يفسر لنا تغيّر صوت المريض الممسوس أثناء هذا الحوار بتغير حباله الصوتية، أو حديثه بكلام غير مفهوم، أو نطقه ببضع كلمات أو جمل بلغات أجنبية يجهلها. وهذا كله وغيره يوضح لنا أن عقله الباطن احتفظ بأشياء متعددة، فأخرجها في هذا الحوار نتيجة عملية التنويم الإيحائي والضغط النفسي. وهذه معلومات قديمة قدم البحث فيها، إلا أن بعض الناس يجهلها لعدم الإطلاع عليها ويجد الجن أمامه كأقرب شماعة يعلق عليها مصائبه وأسقامه وأمراضه وجهله بتفسيرها وبيان أسبابها. هل إيمان المرء بالجن وقدراته الخارقة على التأثير في الإنسان يجعله أكثر عرضة من غيره للإصابة بمثل تلك الأعراض المذكورة سابقا؟ أريد أن أشير هنا إلى حقيقة قرآنية واضحة وهي أن الإنسان أقوى وأعلم من الجن، ودليلها في قصة نبي الله سليمان عليه السلام الواردة في سورة النمل حين طلب من جنوده إحضار عرش بلقيس قبل أن تأتيه وقومها مسلمين، فتصدى لهذه المهمة الصعبة عفريت من الجن، لكنه لم يصمد أمام الذي عنده علم من الكتاب حين قال: أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك، ولم يكن هذا إلا رجلا من بني آدم كما يذكر علماء التفسير. وإن إيمان الإنسان المسلم بالجن وقدراته الخارقة على التأثير في الإنسان يجعله فعلا أكثر عرضة من غيره للإصابة بمثل الأمراض النفسية السابق ذكرها. ولو أن كل واحد منا اقتنع بأنه أقوى من الجن لعلم بأنه لن يستطيع أي جني أن يتلبسه أو يمسه، وهذه حقيقة واضحة يمكن تجريبها عمليا والوقوف على نتائجها. هناك من يدعي قدرته على الاتصال بالجن وطرد الجن الذي يسكن الانسان الممسوس. فهل في الاسلام ما يدل على إمكانية حدوث هذا الأمر؟ من يدعي هذا الادعاء يستدل بقوله تعالى في سورة سبأ حين الكلام عن نبي الله سليمان عليه السلام: وَمِنَ الـجِنّ مَنْ يَعْمَلُ بَـينَ يَدَيْهِ بإذْنِ رَبِّهِ. هذه الآية فسرها الإمام الطبري بقوله: يقول تعالـى ذكره: ومن الـجنّ من يطيعه، أي يطيع سليمان عليه السلام، ويأتـمر بأمره، وينتهي لنهيه، فـيعمل بـين يديه ما يأمره طاعة له بإذن ربه بأمر الله بذلك، وتسخيره إياه له..فمعنى كلام الإمام الطبري أن هذا التسخير للجن خاص بسيدنا سليمان دون غيره. وهذه الآية محل خلاف بين علماء الإسلام في إمكانية تسخير الإنس للجن. فمن العلماء من منعه، ومنهم من قال به، شأنه شأن قضية المس الجني. وقال بعض أهل العلم إن ادعاء جواز استخدام الجن في الأمور المباحة وغير المباحة هو جرأة في تجاوز لنبي الله سليمان عليه السلام في قوله: (قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي. إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ)..مع ما يصاحب ذلك كله من المخاطر العقدية الكثيرة. ولو نظرنا في حديث ترك النبي صلى الله عليه وسلم للشيطان الذي أراد قطع صلاته ولم يربطه في السارية واحتجاجه بدعوة أخيه سليمان عليه السلام لظهر لنا ذلك جليا. ومعلوم عند المسلمين كذلك بالقطع أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستعمل الجن في حياته. فواضح من هذا كله أن هذا الاستخدام غير مشروع، ناهيكم عمن يدعي أنه يملك الآلاف من الجن ويسخرهم ويستعملهم في السحر وغير ذلك من الخزعبلات والترهات التي لا يقرها شرع ولا يثبتها عقل. البعض يلجأ الى بعض المعالجين الذين يدعون بأنهم ورثوا البركة عن آبائهم أو بعض الصالحين وأنهم باللمس أو بطلبات بسيطة يمكنهم تخليص الناس من الأمراض. كيف تنظر الى هذا الأمر؟ المعالج بالبركة الموروثة أو البركة المستحدثة يجب أن يعلم بأنه لا يعالج المريض مما ألم به من أمراض وأسقام بالبركة، وإنما يعالجه بأثر البركة النفسي وبقابلية المريض لهذا النوع من العلاج، وهذا من قبيل فعل الإيحاء وأثره في نفس المريض. وإن الاستجابة لفعل البركة هي أمر طبيعي في هذه الحالة، وذلك لتوفر شروط الاستجابة الإيحائية ووجود قابلية العلاج بالبركة ونحوها. ومن هنا نفهم لماذا يشفى بعض المرضى حين ذهابهم عند أصحاب البركة. وحقيقة الأمر إن العلاج بالبركة هو علاج بالوهم، ويكون هذا العلاج فعالا عند المرضى بالوهم فقط، وقديما قيل: فداويها بالتي كانت هي الداء. ما رأيك في لجوء الناس إلى العلاج بالرقية من أجل التخلص من مس الجن؟ وهل يمكن أن نصنف ما يقوم بها بعض المعالجين بأنه من باب الرقية؟ المعلوم أنه وقع اختلاف بين علماء الأمة في الرقية والعمل بها، وقد ذكر الإمام ابن حجر شيئا من هذا الاختلاف في كتابه فتح الباري. والرقية الشرعية أمر خاص بالمؤمن وبأقرب الناس إليه وليست حرفة أو مهنة يقوم بها البعض عن حسن نية لطرد الجن وحرقهم أو ما إلى ذلك. وأحب أن أعيد تأكيد ما أكده الإمام ابن حجر العسقلاني حين بين أن الخلاف في الرقى مشهور، ولا خلاف في مشروعية الفزع إلى الله تعالى والإلجاء إليه في كل ما وقع وما يتوقع والأخذ بالأسباب المشروعة في الشفاء. إلى أي حد يظهر انتشار مثل هذه الأفكار مدى الفراغ العقائدي والروحي لدى المجتمعات التي تنتشر فيها مثل هذه التصورات؟ إن أغلب المصائب التي تعاني منها الأمة هي نتيجة حتمية لجهلها بدينها وعدم طلبها للعلم. وأعطيكم مثالا قريبا من موضوعنا، وذلك حين يعتقد بعض الناس أن القرآن الكريم يشفي جميع الأمراض، وبالتالي يدعو بعض الأفراد عبر بعض الكتب العجيبة أو بعض القنوات الفضائية الغريبة الناس إلى اعتماد كتاب الله في كل الأمراض، وخاصة العضوية منها، مستدلين بقوله تعالى (وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين). وعرض هذه الآية على علماء التفسير لبيانها وتفسيرها يؤكد فساد هذا الادعاء وبطلانه. فالإمام الطبري مثلا يوضح أن المراد بقوله تعالى ذكره في الآية: ونزل عليك يا محمد من القرآن ما هو شفاء يستشفى به من الجهل من الضلالة، ويبصر به من العمى للمؤمنين ورحمة لهم دون الكافرين به، لأن المؤمنين يعملون بما فيه من فرائض الله، ويحلون حلاله، ويحرمون حرامه فيدخلهم بذلك الجنة، وينجيهم من عذابه، فهو لهم رحمة ونعمة من الله أنعم بها عليهم. فانظروا كيف فسر علماء الأمة الآية وكيف يفسرها بعض الغافلين التائهين وكذا بعض المحتالين الدجالين في عصرنا!