من المؤكد أن الخناق قد ضاق على سوريا على نحو لم يسبق له مثيل منذ مدريد ولغاية الآن، إذ أن عودة المحافظين الجدد إلى السلطة بولاية ثانية أكثر قوة وشرعية قد دفعت الجميع إلى التراجع أمام سطوتهم. وحين يحدث ذلك مع الدول الكبرى فإن مأزق الدول الصغيرة يكون أكبر، فما من أحد هنا يمكن الاحتماء به، فكيف حين تشاء الأقدار أو المصالح أن تتحالف إحدى أهم تلك الدول (فرنسا) مع الإمبراطورية الأكبر ضد دمشق؟! حدث ذلك في قصة مجلس الأمن الدولي رقم 1559 الذي يمكن القول إن فرنسا هي صانعه بامتياز، تبعاً لحسابات لبنانية، حيث ترى باريس أن دمشق قد تجاهلتها تماماً في سياق ترتيب الأوراق اللبنانية، سيما حين بادرت إلى التمديد للرئيس لحود. منذ ذلك الحين وسيف القرار الدولي يلاحق دمشق ويضطرها إلى إعادة النظر في طبيعة وجودها السياسي والعسكري على الأرض اللبنانية، من دون أن يبدو أن هناك توجه نحو الخروج الحقيقي من لبنان، وهو ما أكدته مسيرة التنديد بالقرار الدولي التي قيل إنها مليونية، لكنها لم تكن كذلك، وإن بقيت مسيرة ضخمة بكل المقاييس. على أن ذلك لم يكن كل شيء في سياق الضغوط الأمريكية على سوريا، فالتلويح بإجراءات سياسية واقتصادية أخرى، بل وحتى عسكرية أيضاً لا زال واضحاً في النبرة الأمريكية، الأمر الذي أدى إلى دفع دمشق نحو برمجة عملية تراجع منظم، على أمل أن يفضي ذلك إلى تجاوز المرحلة بأقل الأضرار الممكنة. في قمة شرم الشيخ المخصصة للعراق، تراجع الجميع كباراً وصغاراً، وعلى رأسهم الدول العربية، وذلك كعنوان مهم للمرحلة الجديدة، مع أن ما جرى لا يعني أن اللعبة الأمريكية في العراق قد دخلت طور النجاح، لأن المواقف في القمم وبياناتها الختامية شيء، والمواقف التالية شيء آخر. لا ينفي ذلك بالطبع دلالة الموقف، وحيث يتجنب الجميع استفزاز ثور هائج لا يحتمل الكثير من الإثارة، الأمر الذي تبدى تالياً في التراجع الإيراني في الملف النووي، ويتبدى الآن في الموقف السوري الجديد من المفاوضات مع الدولة العبرية، وحيث تتقدم دمشق خطوة مهمة وتعرض الدخول في مفاوضات جديدة من دون شروط. لا حاجة هنا للإكثار من الجدل حول ماهية العرض السوري، وما إذا كان مشروطاً أو من دون شروط، وما إذا كانت المفاوضات ستأخذ في الاعتبار "وديعة رابين" أم ستتجاهلها، فالمسألة هنا رمزية ليس إلا، والإسرائيليون، وكما حلفاؤهم الأمريكان، يدركون تماماً جوهر الخطوة السورية، وقد ردوا عليها بما يليق بها من زاوية نظرهم، أي المطالبة بوقف المساعدة السورية للإرهاب قبل الدخول في أية مفاوضات جديدة. لم تكن الخطوة السورية الجديدة هي الأولى على صعيد محاولة امتصاص الهجوم الأمريكي عليها، فقد سبقتها خطوات أخرى، من بينها تلك الخاصة بالوجود العسكري في لبنان، ومن بينها أيضاً حل الإشكال الحدودي مع الأردن، لكن أهمها حتى الآن ربما جاء في سياق تطبيع العلاقة مع حكومة إياد علاوي، وهو الفتى المدلل الثاني لواشنطن في المنطقة، بل لعله الأول هذه الأيام، إلى جانب "رجل السلام" شارون، الأمر الذي انسحب على تلبية مطالب الحكومة العراقية المؤقتة بشأن الحدود والدعم السياسي، إلى غير ذلك من الخطوات المشابهة. لكن ذلك لا يشكل الكثير بالنسبة لواشنطن، فقائمة مطالبها قد تكون بلا نهاية، فما قدمه السوريون حتى الآن للقضية الأمريكية في العراق لا يعدو كف الأذى مع قليل من الدعم السياسي الظاهري، أما المطلوب فهو دعم الجهد الأمريكي لإنجاح مشروع الاحتلال، الأمر الذي تدرك دمشق أنه المشروع الأخطر عليها، حتى من الاحتلال الإسرائيلي الذي تعايشت معه لعقود طويلة. هنا تنهض المطالب الإسرائيلية من لعبة القط والفأر مع سوريا، وهي التي تتلخص في ضرب حزب الله والتوقف عن دعم منظمات المقاومة الفلسطينية، إلى جانب توفير مختلف أشكال الدعم للفتى المدلل الجديد (محمود عباس)، ومعها عودة المفاوضات السورية الإسرائيلية بنبرة مختلفة عن السابق، وذلك بهدف إفساح المجال لموجة تطبيع عربية إسرائيلية مميزة كتلك التي شهدتها السنوات الأولى بعد أوسلو، بل إن المطلوب سيكون تطبيعاً أكثر دفئاً مما مضى. والحال أن دمشق لن تقول (لا) لأي من هذه المطالب، وإنما ستتعامل معها جميعاً بأساليب مختلفة، فمحمود عباس سيحظى بمعاملة خاصة في سوريا، وقوى المقاومة الفلسطينية الموجودة في دمشق ستمارس بعض التهدئة في خطابها السياسي وفعلها الميداني لتجاوز المرحلة الصعبة، فيما سينسحب ذلك على حزب الله أيضاً. أما المفاوضات فلن تمانع دمشق في استئنافها إذا لم يضع الإسرائيليون المزيد من الشروط المذلة لذلك، فيما يبدو مهماً بالنسبة لدمشق أن تظهر تل أبيب في صورة المتشدد أمام الوضع الدولي. من المؤكد أن هذه المطالب جميعاً ستتحرك مع مطلب مهم آخر يستخدم لأغراض الضغوط وتسريع المطالب الأخرى، وليس من أجل تطبيقه بالفعل، أعني ملف الإصلاح الداخلي الذي بات العصا الأمريكية السحرية التي تدفع الدول العربية إلى تقديم التنازلات الأغلى. وهنا بالضبط يمكن للقيادة السورية أن تغرد خارج السرب العربي فتبادر إلى تصليب موقفها مع الأمريكان والإسرائيليين من خلال تمتين الجبهة الداخلية بتنازلات معقولة للشارع الشعبي الذي يبدو متفهماً لصراعها مع الخارج ومستعداً لمواجهته إذا ما تقدمت خطوات ملموسة باتجاهه. خلاصة القول هي أنه إلى جانب التماسك السياسي واستمرار المناورة التي يجيدها السوريون، ليس أمام دمشق كي تتخلص من المأزق الراهن سوى التنازل للداخل كي تكون قادرة على مواجهة غطرسة الخارج، سيما وأن المؤشرات المتوفرة لا زالت تؤكد إننا إزاء لحظة اختلال في ميزان القوى الدولي من المرجح أن لا تطول في ظل تعمق المأزق الأمريكي في العراق. ياسر الزعاترة - كاتب فلسطيني